عبدالله تركماني
ثمة مؤشرات عديدة توحي بأنّ الخريطة الجيو – سياسية للشرق الأوسط دخلت طور التغيير بشكل لم يحدث منذ عقود، وأنّ التحالفات والعلاقات في ما بين دول المنطقة، وما بينها وبين دول العالم تشهد تغييراً واسعاً. حيث تشهد المنطقة، الممتدة من المشرق العربي إلى المنطقة المغاربية وإيران وتركيا وانتهاءً بأفغانستان وباكستان، تطورات سياسية واقتصادية واجتماعية قوية.
إنّ الصراع الإقليمي على الشرق الأوسط تكاد تزول فيه الفواصل بين ما هو إقليمي وما هو دولي، وإن كان العنصر المحرك للقوى الإقليمية يبدو ظاهراً أكثر في هذه المرحلة، من خلال سعيه لطمس الهوية العربية عن المنطقة وجرها إلى ساحة متسعة تسمح لدول غير عربية بأن تكون طرفاً وشريكاً فاعلاً في أمور المنطقة.
وينتظم المشهد الراهن في الشرق الأوسط حول حقيقتين استراتيجيتين رئيسيتين (1): اللافاعلية الأميركية والانعطافة الصينية، والنشاط الديبلوماسي المتزايد للأطراف الإقليميين. وبصورة استرجاعية، يمكن القول إنّ التمدد الإيراني في الإقليم العربي والهمجية الإسرائيلية في فلسطين مثلتا نقطة التحوّل الرئيسية في إدراك الأطراف الإقليميين لخطورة الفراغ المترتب على التعثر الأميركي، واستحالة إدارة الأزمات والصراعات المختلفة من دون بحث عقلاني ورشيد عن توافقات ومساومات براغماتية، تضع نهاية، وإن تكن مؤقتة وجزئية، لاختلالات ما بعد احتلال العراق.
وبالرغم من ذلك فإنّ أهم السمات الجوهرية التي تميّز البيئة الإقليمية في الشرق الأوسط هي:
(1) – استمرارية السيطرة الغربية، وخاصة جناحها الأميركي، على المنطقة العربية والحزام المحيط بها، وهي تزداد تأثيراً في رسم الخريطة الجغرا – سياسية للمنطقة.
(2) – استمرارية الأهمية الاستراتيجية للمنطقة، ليس في مجال موارد الطاقة فحسب بل كونها تحتضن العديد من الممرات المائية الاستراتيجية، بما يعنيه ذلك من استعداد الولايات المتحدة الأميركية للدفاع عن مصالحها إذا ما ظهرت أية قوى عربية أو إقليمية أو خارجية لمزاحمتها أو الإضرار بمصالحها.
(3) – التلازم بين تأصيل وجود إسرائيل في قلب المنطقة العربية، وتطوير دورها، وحلِّ القضية الفلسطينية حلاً يضمن تصفية عناصرها الحادة من جهة، وبين مشروع إعادة صياغة الخريطة الجغرا – سياسية للمنطقة، وفق مشروع نظام إقليمي للشرق الأوسط الجديد من جهة أخرى.
(4) – توافر متغيّرات عربية وإقليمية ودولية لتحقيق هدف تأصيل إسرائيل وبناء المشروع الشرق أوسطي على مرتكزات وظيفية، اقتصادية وأمنية وسياسية إقليمية.
وعليه، فإنّ مركز الثقل في سياسات الشرق الأوسط قد انتقل شرقاً إلى منطقة الخليج لاعتبارات استراتيجية، واقتصادية، وديبلوماسية. فعلى الصعيد الاستراتيجي، برز عاملان حتّما هذه النقلة: تعثّر المشروع الأميركي في العراق، وما تلاه من تنامي النفوذ الإيراني في كل من بلاد الرافدين والعديد من مناطق الشرق الأوسط. وعلى المستوى الاقتصادي، جاء الغزو الروسي لأوكرانيا وما رافقه من حصار غربي على الصادرات الروسية، مما أدى إلى الارتفاع في أسعار النفط ليعطي دول الخليج أهمية مضاعفة في كل من اقتصاديات المنطقة وسياساتها، وأيضاً في العلاقات الدولية. مما خلق وقائع ديبلوماسية جديدة، شجعت دول المنطقة، خاصة منها العربية الخليجية، على رفض الانسياق إلى سياسة المجابهة أو حافة الهاوية مع إيران خوفاً من تلقّي مردوداتها السلبية على أمنها واستقرارها، واختارت إطلاق العمل الديبلوماسي ليس في منطقة الخليج، عبر الحوار المباشر مع إيران، بل أيضاً في باقي أنحاء الشرق الأوسط.
وفي سياق المسائل السابقة الذكر يبدو أنّ اللاعبين في المشهد الجديد للشرق الأوسط (2): إسرائيل وتركيا وإيران، إضافة إلى لاعب إقليمي مؤثر عابر للحدود في هذه المنطقة هو الإسلام السياسي. أما بالنسبة إلى الدول العربية فكلنا يرى بأم عينه أنها غير مؤثرة في لعبة الشطرنج الإقليمية منذ فترة طويلة، فهي بقيت أحجاراً بيد اللاعبين الدوليين وأحياناً بيد اللاعبين الإقليمين.
إنّ ظاهرة الصراع أصبحت شبه دائمة في الشرق الأوسط، ولكي ندرك دوافع استمرار ظاهرة الصراع على النحو التي هي عليه، لابدَّ من تحليل علاقات التأثير والتأثر بينها وبين التغيّرات الجغرافية والسياسية. إذ إنّ العوامل التي تسبب الصراع الاستراتيجي في الشرق الأوسط يمكن تقسيمها إلى نوعين (3): أولهما، يشمل العوامل ذات الصبغة الجوهرية شبه الدائمة، وهي تمثل المصدر الرئيسي لمختلف أنواع الصراع. وثانيهما، يشمل العوامل الثانوية، وهي في الغالب متغيرة ومؤقتة ومحدودة الأثر في كثير من الحالات.
إنّ العوامل الجوهرية شبه الدائمة تشمل: التقسيم الجيو- سياسي للشرق الأوسط، الذي يعود إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى. ووفقاً لهذا التقسيم، فإنه يضم ثلاثين دولة، منها اثنتين وعشرين دولة عربية، بالإضافة إلى كلٍّ من: أفغانستان وباكستان وإيران وتركيا وقبرص وأثيوبيا وإرتيريا وإسرائيل. والنزاعات بين دول المنطقة على مصادر المياه والأرض، خاصة أنّ الغالبية العظمى من أراضي المنطقة صحاري شاسعة، إضافة إلى الزيادة الكبيرة في عدد السكان، والحاجة الملحة لتوفير المياه اللازمة للزراعة والصناعة والاستخدامات البشرية. والتنوع القومي والثقافي، إذ إنّ الشرق الأوسط مجمّع لا مثيل له للحضارات المتعاقبة القديمة منها والحديثة، ومهد الديانات التوحيدية، وموطن للمكونات الأقلوية على تعددها وتنوعها. وأخيراً الوضع الجيو- استراتيجي لمنطقة الشرق الأوسط، والذي يشكل قاعدة أساسية لما يمكن أن نطلق عليه ” ظاهرة التراكم الاستراتيجي “، التي تتكون من أربع مقوّمات رئيسية: الموقع الجغرافي، والممرات المائية، وثروة النفط والغاز الطبيعي، والمراكز الحضارية.
أما العوامل الثانوية المتغيرة والمحدودة، فأهمها: نزاعات الحدود التي تكاد تصبح ظاهرة منتشرة بين العديد من دول المنطقة منذ استقلالها، واختلاف الرؤية الاستراتيجية للنظم السياسية حول التعاون الإقليمي والدولي، وتدخّل الدول الكبرى في النزاعات الإقليمية في الشرق الأوسط، ومشكلات بعض الأقليات في بعض دول الشرق الأوسط.
واليوم من يعيد رسم خريطة المنطقة؟
يبدو أنّ خصائص أربع تمثل الملامح العامة للشرق الأوسط الجديد (4): أولاها، انتقال مركز الثقل في تفاعلات النظام الإقليمي من القلب العربي إلى الأطراف (إيران وتركيا وإسرائيل)، فالتفاعلات الرئيسية في المنطقة هي بالأساس تفاعلات غير عربية، وهي موزعة على النحو التالي: تفاعلات أميركية – إيرانية، وتفاعلات إيرانية – إسرائيلية، وتفاعلات إسرائيلية – تركية، وفي كلٍ من هذه التفاعلات لا تقوم الأطراف العربية فيها إلا بأدوار الكومبارس المحفِّز أو المسِّهل.
وثانيتها، حدوث تحولات استراتيجية في منظومة الأمن الإقليمي، وهي تحوّلات تجسد عملياً انتهاء أطروحة ” الأمن الإقليمي العربي “، كي تحل محلها أطروحة ” الترتيبات الأمنية الثنائية “. وثالثتها، تحوّل أنماط الدولة – الأنموذج (الدولة – القائد) من المحيط العربي إلى نظيره الإقليمي، وهو ما تجسده بوضوح حالتا إيران وتركيا. فالأولى لا تعرض نفسها على الشعوب العربية كقوة إقليمية تسعى للهيمنة، بقدر ما تتلبس عباءة المدافِع عن القضايا والحقوق العربية، وهي ببساطة تسعى كي تصبح نسخة مكررة عن ” مصر الناصرية ” وذلك عبر وسيلتين: الظهور بمظهر الداعم لقوى ” المقاومة والتحرير ” في العالم العربي، والإصرار على امتلاك التكنولوجيا النووية لتحقيق التوازن مع إسرائيل، ما يزيد من رصيدها وشعبيتها في الشارع العربي بوصفها قوة نووية إسلامية.
أما تركيا فلا تقدم نفسها باعتبارها قوة إقليمية ” ناشئة ” تسعى لمد نفوذها إلى حديقتها ” الخلفية “، خاصة في ظل الأبواب الأوروبية الموصَدة أمامها، وإنما كطرف نزيه يعبأ بحال الضعف والهزال العربي. وهي في ذلك تملك مزيتين: أنها دولة سنيّة شأنها في ذلك شأن الدول العربية ما ينفي عنها التهمة المذهبية، وأنها دولة ديموقراطية ما يجعلها منافساً أصيلاً لإسرائيل وينفي عنها صفة التفرد ” الأنموذجي ” في المنطقة. لذا، فلا عجب أن تصبح كلتا الدولتين، إيران وتركيا، محط إعجاب الكثيرين في العالم العربي، وأن تحظيا بتأييد ومباركة كل خطواتهما في سبيل تعزيز نفوذهما في المنطقة.
ورابعتها، التحول في طبيعة ” العدو “، ما يعني عملياً انتهاء أطروحة ” العمل الجماعي “، مقابل ترسيخ سياسة ” المحاور “. وهي علامة بارزة على نهاية أهم ملامح الشرق الأوسط ” القديم ” الذي حملت فيه إسرائيل لقب ” العدو ” الأوحد من دون منازع. والآن ثمة تحولات جذرية في الوعي الرسمي العربي، تسعى لإعطاء هذا ” اللقب ” لقوى إقليمية جديدة. وهو بقدر ما يعكس هروباً جماعياً من مواجهة العدو الإسرائيلي، فإنه يعكس أيضاً الفشل الذريع في احتواء ” العدو المحتمَل ” وهو إيران.
إنّ إسرائيل وإيران وتركيا ثلاث قوى إقليمية تتصارع على المنطقة العربية، بالمكوّنات والمصالح المختلفة لكل واحدة منها، وبطرائق وأدوات وبرامج متفاوتة في هذا الصراع العلني حيناً، والخفي حيناً، بين التهديد بالحرب، أو شنها فعلاً من جهة، والديبلوماسية ” الناعمة ” أو ” الخشنة ” من جهة أخرى.
ومن المؤكد أنّ الشرق الأوسط سيشهد حالة من الفراغ السياسي بانحسار الدور المهيمن للولايات المتحدة الأميركية، وسيشهد منافسة غير منتظمة بين أقطاب النظام الإقليمي الثلاثة، ولعله يعزز من البحث العربي عن دور، سيما وأنّ اقتصاد النفط ومردوده النقدي سيظل عنصراً أساسياً ومؤثراً في السياسات الدولية. ومن الضروري جداً أن يتحرك العرب باتجاه تفكيك الأزمات في ما بينهم والسعي إلى إعادة بلورة النظام الإقليمي للأمن العربي، الذي أصبح مهدداً في الحدود وفي داخل بعض الدول مع اتساع نشاط جماعات التطرف والإرهاب.
إنّ إيران التي تلعب دور القوة الإقليمية الوحيد في المنطقة، الساعي إلى الهيمنة أو الساعي إلى مواجهة المهيمن الإقليمي الإسرائيلي في غيبة الدور والمشروع العربي، تعي الآن أنّ تركيا أصبحت طرفاً في المعادلة الإقليمية. والخيار الاستراتيجي الإيراني بهذا الخصوص هو جعل هذا الدور التركي الإقليمي شريكاً وليس منافساً، لأنه من الصعب أن يبقى محايداً في ظل الملفات المتشابكة والساخنة التي أخذت تفرض نفسها وسريعاً على تركيا منذ أن قررت أن تلقي بنفسها في مستنقع الشرق الأوسط.
إنّ منطقة الشرق الأوسط أضحت موضوع تسابق الفاعلين فيها على أدوار إقليمية مؤثرة تتيح تعظيم مغانمهم من إعادة هندستها، ولم تتورع تركيا عن توظيف كل طاقاتها لإنجاح مساعيها، بدءاً بعلاقاتها الوثيقة المتنامية مع أغلب الدول المؤثرة في الإقليم، وعضويتها في الحلف الأطلسي، وانتهاء بمواردها المائية الوفيرة.
ويعتقد بعض المحللين أنّ الكرة في ملعب الشرق الأوسط يتبادلها لاعبان إقليميان: إيران وإسرائيل، وأنّ أدوار بقية الأطراف، تابعة بشكل مباشر أو غير مباشر لأصول وتفاصيل المواجهة الناشبة بين إيران وإسرائيل (5). في هذه المواجهة تحتفظ إيران بالعراق رهينة، وتحتفظ إسرائيل بالفلسطينيين وعرب الجوار رهينة، وينطلق الطرفان الإيراني والإسرائيلي بأقصى سرعة وبكل إمكاناتهما وبالرهينتين في حوزتهما نحو تصادم. واللاعبان في هذه اللعبة الافتراضية أمام احتمالين: أن يقع التصادم وبالتالي ينتهي اللاعبان مع رهائنهما، أو يخرج أحدهما قبل التصادم بلحظات ويدفع ثمن خروجه مع حلفائه ورهائنه باهظاً. في الحالتين، وإن لم يتوقف اللاعبان عن لعبتهما سيدفع العرب، كرهائن في هذه اللعبة، ثمناً في حجم الكارثة.
الهوامش
(1) – د. عمرو حمزاوي: بين غياب الفاعلية الأمريكية وتحرك الأطراف الإقليميين – صحيفة ” الحياة ” – لندن 5 يونيو/حزيران 2008.
(2) – د. مصطفى علوي: خريطة اللاعبين والمشهد الاستراتيجي الإقليمي – صحيفة ” الأهرام ” المصرية – 25 يونيو/حزيران 2003.
(3) – د. بكر مصباح تنيرة: تطور الصراع الاسترتيجي بين القوى الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط وأثره على مستقبل الوطن العربي – المرجع السابق.
(4) – خليل العناني: القوى الإقليمية الناشئة والشرق الأوسط ” القديم ” – صحيفة ” الحياة ” – لندن 11 فبراير/شباط 2009.