طبيعة الخلافة ووجودها وشروطها عند علماء المسلمين. 3 / 5
أولا: في وجوب الخلافة
استقر لدى علماء المسلمين أن الخلافة موضوعة لخلافة النبوة، وحراسة تطبيق تعليمات الشرع، وتنظيم شؤون المسلمين، وأنها من أعظم واجبات الدين، بل إن الدين لا يقام إلا بها، إذ أن مصالح البشرية لا تتم إلا بالاجتماع، والاجتماع يحتاج إلى تنظيم، والتنظيم يحتاج إلى رأس.
أكد الرسول ﷺ على ضرورة وجود هذا الرأس في أحاديث متعددة منها قوله: ” إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم”، وروى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمر أن النبي ﷺ قال: ” لا يحل لثلاثة أن يكونوا بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم”، ويتابع الإمام ابن حنبل في مسنده معلقاً على هذا الحديث، ” فأوجب ﷺ تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر تنبيها على سائر الاجتماعات” (1). كما يوجد العديد من الأحاديث التي تفرض البيعة للإمام (2) .
والدعوة الإسلامية نظرا لطبيعتها الجهادية تستدعي وجود خليفة على رأسها ينظم أمور الدعوة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، وفي هذا السبب يقول العلامة ابن خلدون: “والملة الإسلامية لما كان الجهاد فيها مشرعا لعموم الدعوة، وحمل الكافة على دين الإسلام طوعا أو كرها، اتحدت فيها الخلافة والملك لتوجيه القائمين بها إليهما معاً، وأما ما سوى ملة الإسلام، لم تكن دعوتهم ولا الجهاد عندهم مشروعاً إلا في المدافعة فقط، فصار القائم بأمر الدين لا يعنيه شيء من سياسة الملك لأنهم غير مكلفين بالتغلب على الأمم الأخرى، إنما هم مطالبون بإقامة دينهم في خاصة أنفسهم” (3)، وتأكيداً على وجوب الخلافة/ الإمامة عند المسلمين، يقول عبد القادر الإسفراييني في كتابه الفرق بين الفرق: “إن الإمامة فرض واجب على الأمة “(4) ، وعلى هذا أجمع علماء المسلمين، ولم يخرج عن هذا الإجماع إلا الأصم الذي قال: “لو تَكافَّ الناس عن التظالم لاستغنوا عن الإمام”(5).
وقد اختلف علماء المسلمين على مستند هذا الوجوب، إذ تقول طائفة إن هذا الوجوب مستنده العقل، وتقول أخرى إن هذا الوجوب مستنده الشرع، وفي هذا الخلاف يقول أبو الحسن البصري الماوردي: “واختلف في وجوبها، هل وجبت بالعقل أو بالشرع ؟ فقالت طائفة وجبت بالعقل لما في طباع العقلاء من التسليم لزعيم يمنعهم من التظالم ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم، ولولا الولاة لكانوا فوضى مُهملين وهمجاً مُضاعين .. وقالت طائفة أخرى، بل وجبت بالشرع دون العقل، لأن الإمام يقوم بأمور شرعية”(6).
وأشهر من قال بوجوب الإمامة عقلا “المعتزلة”، وهم في الأصل من أصحاب منطق سيادة العقل في جميع المسائل.
ومن أشهر الذين نقدوا مقولة أن وجوب الإمامة مستندة إلى العقل الإمام محمد بن حامد الغزالي الذي قال: “ولا ينبغي أن تظن أن وجوب ذلك – في معرض حديثه عن الخلافة – مأخوذ من العقل، فإنَّا بَينّا أن الوجوب يؤخذ من الشرع، إلا أن يفسر الواجب بالعقل الذي فيه فائدة، وفي تركه أدنى مضرة، وعند ذلك لا ينكر وجوب نصب الإمام لما فيه من الفوائد، ورفع المضار في الدنيا، ولكنَّا نقيم البرهان القطعي الشرعي على وجوبه، ولسنا نكتفي بما فيه من إجماع الأمة، بل ننبه على مستند الإجماع ونقول: نظام أمر الدين مقصود لصاحب الشرع عليه السلام قطعاً، وهذه مقدمة قطعية لا يتصور النزاع فيها، ونضيف إليها مقدمة أخرى هي أنه لا يحصل نظام الدين إلا بإمام مطاع، فيحصل من المقدمتين صحة الدعوة وهي وجوب نصب الإمام” (7).
ثانيا: طريق عقد الإمامة
لقد أجمع فقهاء السنة والجماعة، ومعهم معظم رجال المذاهب الإسلامية، على أن طريق عقد الإمامة للإمام في هذه الأمة الاختيار والاجتهاد(8) .
وقد تمثل هذا الاختيار في ظل البيعة، على غرار بيعة الرضوان التي بايع فيها الأنصار الأوائل رسول الله ﷺ على السمع والطاعة والجهاد والنصرة، وفي تعريف البيعة يقول ابن خلدون في المقدمة: “اعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أمر نفسه، وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره” (9).
وقال معظم هؤلاء العلماء: “أن الإمامة تنعقد بمن يعقدها لمن يصلح للإمامة، إذا كان العاقد من أهل الاجتهاد والعدالة” (10) .. مع خلاف حول عدد أهل البيعة بين بعضهم الآخر، وقالوا أيضا إنه ” ليس من النبي ﷺ نص على إمام واحد بعينه … ولا ينفصل من ادعى ذلك في علي مع عدم التواتر في نقله، ممن ادعى مثله في أبي بكر أو غيره” (11) .
ثالثا: وظائف الخليفة
باعتبار الخلافة تتضمن كل ما يتعلق بشؤون تطبيق الشرع، وكل ما يمس تنظيم شؤون المسلمين، لذا، فإن مهام الخليفة تتضمن ما يحقق هذه الطبيعة، ويؤدي إلى تحقيق أهدافها، وأهم مهام الخليفة تطبيق الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، وإقامة حدود الله، وتنظيم شؤون الرعية، من حيث حفظ العدالة وتنظيم الجباية وتحقيق الأمن العام والأمن الاجتماعي، وقد أجمل أبو الحسن البصري الماوردي مهام الخليفة بعشرة أشياء عددها في كتابه “الأحكام السلطانية”، كما يلي:
الأول: حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما اجمع عليه سلف الأمة.
الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين المتنازعين.
الثالث: حماية البيضة والذب عن الحريم.
الرابع: إقامة الحدود.
الخامس: تحصين الثغور.
السادس: جهاد من عاند الإسلام بعد دعوة.
السابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع.
والثامن: تقدير العطايا وما يستحق في بيت مال المسلمين.
والتاسع: استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما فوضه إليهم من أعمال.
والعاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال. (12).
كما حددوا الشروط التي يجب توافرها في الإمام وهي: العلم والعدالة والسياسة. وأوجبوا من العلم له مقدار ما يصير من أهل الاجتهاد في الأحكام الشرعية، وأوجبوا من عدالته أن يكون ممن يجوز حكم الحاكم بشهادته، وذلك أن يكون عدلا في دينه، مصلحاً لماله وحاله، غير مُرتكبٍ لكبيرة ولا مُصرٍّ على صغيرة، ولا تارك المروءة في جل أسبابه (13).
وأضاف معظم الفقهاء المسلمين شرط القرشية، أي أن يكون الخليفة من قريش، مستندين في ذلك إلى إجماع الأمة على تأمير الخلفاء من قريش، كما استند بعضهم إلى الحديث المنسوب إلى النبي والذي يقول فيه: ” الأئمة من قريش”، وأضاف آخرون على هذه الشروط البلوغ والعقل والذكورة وسلامة الأعضاء والحواس (14)، وهي ما عبر عنها البعض منهم بالقدرة والكفاءة، وإذا أمعنا النظر في هذه الشروط لرأينا إنها تمثل نموذج القائد المسلم العارف بشؤون دينه ودنياه.
والأصل فيها أن يرفض الفقهاء الاعتراف بمشروعيته، نظرا إلى التعارض مع قواعد تأسيس الخلافة على مبدأي الشورى والبيعة، ولكن معظم الفقهاء اتخذوا موقفا آخر، إذ اعترفوا بشرعية هذا الخليفة ضمن شروط معينة أهمها:
أن لا يكون للمسلمين إماماً غيره، وأن يقيم العدل في الناس، ويحوز على رضاهم اللاحق، وكان النموذج الصارخ للخليفة الشرعي القادم إلى الخلافة عن غير طريق الشورى الصحيحة هو الخليفة عمر بن عبد العزيز، والذي كثيراً ما أطلقت عليه تسمية خامس الخلفاء الراشدين، والذي رأى فيه الإمام مالك، المثال الأعلى للخليفة العادل.
ومن هنا أسقط الإمام مالك شرط الشورى والاختيار مكتفياً بالرضى اللاحق، وكان للشافعي رأي مماثل في هذا الشأن رواه عنه تلميذه حرملة، والرأي عينه حمله الإمام أحمد بن حنبل في إحدى رسائله التي تقول: “من ولي الخلافة فاجتمع عليه الناس، ورضوا به، فهو خليفة ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة فهو خليفة” (15).
رابعا: طاعة الخليفة وعزله
عقد الخلافة يستمر مدى حياة الخليفة ما لم تطرأ موجبات تستلزم إنهاء العقد وعزله:
** أولها: كفر بعد إيمان، واشترط البعض الكفر الصريح الذي لا يحتمل أي تأويل، إذ أن ولاية الكافر غير جائزة شرعاً بحال من الأحوال، وهي الحالة الوحيدة المتفق عليها بإجماع الأمة أن ليس على عزل الخليفة فحسب وإنما على وجوب الخروج عليه وقتله أيضاً.
** وثانيها: الجرح في عدالته، فالعدل هو المبدأ العام الذي قام عليه الإسلام، ورفعت الشريعة أعلامه، وليس من المسلمين، ولا على شريعة الإسلام، من لا يستقيم على عدل ولا يحكم به أو ينزل على حكمه، ومرتكز ذلك قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ۗ } [النساء/ ٥٨]،
وقد جاء في تفسير هذه الآية: أمر منه تعالى بالحكم بالعدل بين الناس، ولهذا قال محمد بن كعب وزيد بن أسلم ومشهر بن حوشب أن هذه الآية إنما نزلت في الأمراء – يعني الحكام بين الناس … وفي الحديث: ” إن الله مع الحاكم مالم يَجُرْ، فان جار وكله إلى نفسه”(16).
ويرى الماوردي أن الجرح في العدالة هو الفسق الذي على نوعين:
الأول: ارتكاب المحظورات وممارسة المنكرات، التي أجمع الفقهاء على عزل الخليفة بموجبه،
والثاني: هو الاعتقاد والتأويل بشبهة، واختلفوا على وجوب عزله أم لا.
** وثالثها: نقص في الحواس كالجنون، وذهاب البصر، وقطع اليدين أو الرجلين، وهي أمور تمنع الحاكم من ممارسة أعمال منصبه (17).
فإذا توفرت في الخليفة شروط منصبه وتمت البيعة له، أو الرضى عند بعض الفقهاء، وجبت على المسلمين طاعته ونصرته، واعتبر الخروج عليه فتنة وبغياً يطبق عليه حد البغي الذي مارسه علي بن أبي طالب على خصومه، والخوارج منهم بشكل خاص. وطاعة الخليفة ملزمة شرعا، يقول الله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ۖ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء / 59].
ولكن هذه الطاعة ليست مطلقة، وإنما هي مقيدة، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وقد اختلف الفقهاء في حدود الطاعة، وحالات وجوبها، وساروا في ذلك في اتجاهات متباينة، وصلت ببعضهم إلى حد الرضوخ المطلق والتبرير الكامل لأعمال السلطان(18)، بينما وضع آخرون شروطا وقيودا لهذه الطاعة، ساهمت من حيث النتيجة في التنظير للخروج على الخليفة والثورة على السلطان (19)، وهي المسألة التي سنبحثها تالياً.
يتبع / الحلقة الخامسة
الهوامش
1 – مسند الإمام أحمد.
2 – منها قوله: ” إنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقي به “، رواه مسلم وقول رسول الله ﷺ : من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات مِيتة جاهلية ، رواه مسلم ، ص ٢٤
3-ابن خلدون المقدمة، ص۲۱۹
4- عبد القاهر الإسفراييني: الفرق بين الفرق، ص ٣٤٩.
5- مقالات الإسلاميين للأشعري ص 32، طبعة السعادة، مصر 1954
6 ـ الماوردي ـ الأحكام السلطانية ـ ص494
7 ـ الغزالي ـ الاقتصاد في الاعتقاد ص213
8 – الإسفراييني ـ الفرق بين الفرق ص ٣٤٩
9- ابن خلدون المقدمة من ۲۰۹
10- الإسفراييني الفرق بين الفرق ـ من ٣٥٠
11 ـ المرجع نفسه الموضع نفسه
12- الماوردي ـ الأحكام السلطانية، ص ١٤
13 ـ الإسفراييني ـ الفرق بين الفرق ص ٣٤٩ – ٣٥٠
14 ـ معجم فقه ابن حزم الظاهري ـ مجلد ۱ ص ۳۳۸
15 – محمد أبو زهرة ـ تاريخ المذاهب الإسلامية في العقائد والسياسة ص 104 ـ 105
16 ـ تفسير ابن كثير، ص ٩٦ سورة النساء الآية.
17ـ الماوردي ـ الأحكام السلطانية.
18- أبو اليسر محمد البزدوي في كتابه أصول الدين، طبعة القاهرة، ١٩٦٣وفيه يقول: “الإمام إذا جار أو فسق لا ينعزل عند أصحاب أبي حنيفة بأجمعهم، وعند القدرية والمعتزلة والروافض ينعزل، وأصحاب الشافعي مختلفون فيه، بعضهم قالوا: ينعزل، وبعضهم قالوا: لا ينعزل” ص138.
19 ـ أبو موسى الأشعري في كتابه مقالات الإسلاميين ص138 يقول: “اختلفوا في أوامر وأحكام الجائر على مقالتين، قال قائلون: هي جائره لازمة إذا كانت على حق، وإن كان جائرا. وقال قائلون: لا تلزم أحكامه، ولا يلتفت إليها.