حسن النيفي
كما تعالت الأصوات في الأمس مُعلنةً عن انعطافة جديدة في السياسات العربية تجاه نظام الأسد، فها هي الأصوات ذاتها اليومَ ترتفع أيضاً ولكن لتنعي تعثّر هذا المسعى وهو لم يكد يخرج من مهده، الأمر الذي دفع الكثيرين للتساؤل حول هذه (الانفلاشة) المبكّرة التي حالت دون استعادة سليمة من الجامعة العربية لأحد أعضائها الذين طُردوا في الأمس، وقد حان وقت استرضاء حَرَدِهم.
يذهب البعض إلى أن سبب انفراط عقد التطبيع الأسدي مع العرب، وعلى وجه التحديد مع السعودية والأردن، إنما يعود إلى عدم وفاء نظام الأسد بما قد تعهّد به من التزامات أمام أقرانه العرب سواء في قمة جدّة أو في مؤتمر عمّان الوزاري، أو في اللقاءات البينية التي جمعت حاكم دمشق مع كل من قادة الإمارات وسلطنة عمان، كلّاً على حدة، إذ يوضح أصحاب هذا الرأي أن ما كان مُتوقَّعاً هو تجاوب وتفاعل أكثر من جانب نظام الأسد، سواء بخصوص القضية السورية بمحاورها المباشرة، كإعادة اللاجئين والإفراج عن المعتقلين وسوى ذلك، أو بخصوص تدفّق الكبتاغون من جانب نظام دمشق وحلفائه من الميليشيات الطائفية باتجاه الأردن ودول الخليج. فيما يرى آخرون بأن ما حدث من شروخات في مسار التطبيع هو أمر مُتوقع من جانب الدول العربية، وإنما أقدمت على هذه الخطوة لرمي الكرة في ملعب نظام الأسد من جهة، ومجاراة لحليفه الإيراني من جهة أخرى، بل ربما جاء جزءٌ من هذا المسعى لإرضاء الروس وخاصة من جانب الإمارات المتحدة.
لعله ليس من الصواب التماس الأسباب المباشرة لاضطراب العلاقات بين الأنظمة العربية، لجعلها مادة للاستنباط واستخلاص الحقائق، بقدر ما يهمّنا معرفة النواظم الأساسية المُتحكّمة بسياسات الأنظمة ذاتها،وفي هذا السياق يمكن التأكيد على ان معظم السياسات العربية إنما تتأسس وتُبنى على مصالح آنية، تتصدّرها المسائل الأمنية التي تمسّ مصير نظام الحكم أولاً، ولم تتقوّم هذه السياسات في يوم ما على ما هو (ثابت استراتيجي)، ولعل الحضور الطاغي لما هو مصلحي آني، بل أمني على وجه التحديد، هو ما يضفي على تلك السياسات حالةً زئبقية، قابلة للتقلب والتغيير بين عشية وضحاها، ولعله من الضروري التذكير بأن التقارب الذي حصل بين نظام دمشق والمملكة العربية السعودية على أعقاب زلزال السادس من شباط الماضي، إنما كان بدفع إيراني، بل ربما كان الأسد احد بنود إيران في التفاهم مع السعودية في بكين، وذلك مقابل أن تكبح إيران صواريخ الحوثيين عن استهداف السعودية، ولكن أنّى للأنظمة المارقة أن تحفظ عهداً أو وعداً.
ثمة حقيقة لا بدّ من الجهر بها دوماً، مفادها أن نظام الملالي في إيران قائم على التوسع والهيمنة، ويحاول تصدير جميع مشكلاته الداخلية إلى الخارج عبر معاركه وصراعاته مع الشعوب المجاورة، وهذه الاستراتيجية التي أسسها الخميني منذ وصوله إلى السلطة، وما تزال هي المنهج الناظم للسياسة الإيرانية، ولا يمكن لأحد ان يتوقع زوال هذه الاستراتيجية لأن زوالها يعني زوال النظام، فثمة عقم في التعاطي مع إيران، مصدره نزعة عرقية متطرفة تتخفّى بلبوس ديني، ولا تقبل أي شكل من أشكال التعايش أو المشاركة مع الآخر، بل لا تؤمن إلّا بالسيطرة المطلقة وابتلاع الآخر. ولعل هذا العقم الإيراني نفسه ماثل في نظام الأسد، من جهة أنه عصيّ على الإصلاح، ذو بنية متكلّسة لا تقبل المرونة، بل إن أي خلل أو تغيير في جزء بسيط منها ربما يؤدي إلى انفجارها وتشظيها، ولعل هذا الأمر هو ما يفسر عدم استجابة نظام الأسد لما طالبته به الدول العربية، ذلك أن عدم الاستجابة لا يجسّد خياراً أسدياً ناتجاً عن تفكير، بقدر ما يجسّد الخيار الوحيد الذي لا تتيح غيره البنية العقيمة للنظام.
ما تجدر الإشارة إليه دوماً، أن علاقات نظام الأسد مع المحيط الإقليمي والدولي غداة انطلاقة الثورة في آذار 2011 ، كانت في أحسن أحوالها، كما كان بشار محطّ رعاية أوربية وخليجية متميزة، ولكن هذه الحفاوة بالأسد سرعان ما انقلبت إلى نفور قاطع حين أعلن الشعب السوري غضبته ونادى بإسقاط الأسد، ولعله من الصحيح اليومَ، لو أن العالم أجمع حاول احتضان الأسد، فإنه لن يستطيع أن يجرّده من تاريخ إجرامي فظيع مارسه بحق السوريين، وكذلك لن يستطيع أن يمنحه شرعيته المفقودة.
فلا التطبيع العربي مع نظام الأسد بقادر على إحيائه، ولا تعويل السوريين على الضغوطات الدولية مهما تعاظمت عليه ستؤدي إلى زواله وسقوطه، وبدلاً من استهلاك الوقت والتفكير أو الرهان الكلّي على فاعلية الآخر وانعكاساتها على مصير نظام الأسد، كان من الأجدى ان يعمل السوريون ليكونوا هم المتحكم بمصير الأسد وليس سواهم، وحين يملكون أسباب ذلك، سيعود المجتمع الدولي، وفي مقدمته السعودية والأردن، لنبذ الأسد والتبرؤ من مساوئه، والمطالبة بإسقاطه.