طارق علي
ترزح سوريا بصورة متواصلة، أقلّه منذ نهايات عام 2019، وهو العام الذي شكّل تبلوراً تاماً لشكل العقوبات الدولية ضدّ الحكومة السورية وأشخاصها ورجال أعمالها انطلاقاً من قانون قيصر، تحت واقع كارثي يتعلّق بالمشتقات النفطية، أدّى بدوره إلى تعقيدات حياتية في أدق المفاصل المتعلقة بالطاقة.
حاولت الحكومة السورية أن تناور أكثر من مرّة في هذا الملف، مستوردةً الوقود من حلفائها في طهران وموسكو، ولكنّ ذلك لم يكن كافياً بأي شكل لسد حاجة السوق، في بلدٍ كان يعيش اكتفاءً بل ويصدّر للخارج قبل عام 2011.
ومن جملة الإجراءات التي كانت تتخذها الحكومة، هي الرفع المتتالي لأسعار المشتقات النفطية، مع الأخذ بالاعتبار فترات الانقطاع الطويل للمادة أساساً من البلاد، من دون أن تكون ثمة إيضاحات رسمية تتسم بالشفافية حيال واقع التوريد من “الحلفاء” في الخارج.
آخر قرارات الرفع تلك جاءت في أواسط شهر آب (أغسطس) الفائت، وأدّت إلى سقوط معيشي هائل أصاب كل القطاعات المهنية بركود وإلى تدهور حياتي كبير لمجمل العائلات السورية، ومن جملة ما أدّت إليه تلك القرارات تظاهرات السويداء وإغلاق المدينة المستمر منذ حينه.
لا شكّ في أنّ كلّ ذلك معروف لأي متابع للشأن السوري، ولكنّه ليس إلّا الشكل العام والظاهر لمشكلة الوقود، بيدَ أنّ التعقيد في هذا الملف يكمن في ما هو خلفه، فحكاية أنّ السوريّ يعاني ليجد الوقود ليست دقيقة إطلاقاً ويمكن تصويبها على النحو التالي: من يملك المال يحصل على الكمية التي يريدها من الوقود وبشكل فوري، ألف ليتر؟ ألفين؟ أياً يكن الرقم فتلك ليست مشكلة طالما أنّ الثمن متوافر.
تبيع الدولة الليتر بـ 8 آلاف ليرة سورية (أكثر من نصف دولار) بواقع 50 ليتراً شهرياً، ولكن يمكن الحصول على آلاف الليترات في كل وقت ويكون ثمن الليتر بين 17 و 20 ألف ليرة (أقل من دولار ونصف) من مصدر أو مصادر متعددة.
في كل مكان
بسهولة يمكن لحظ أنّ كمية الوقود الذي يُباع على الطرقات تجاوزت حدود المعقول، لا يحتاج طالب الوقود للتفكير أين سيذهب، فقط عليه أن يسير بسيارته ويتوقف أمام أي بائع من أولئك الكثر في كل مكان، منظرهم يهيمن ويسيطر ويكاد يخفي الأرصفة، ليس على الطرقات الدولية والخارجية فقط، بل في الأحياء والشوارع الفرعية كذلك.
السؤال الذي يفكر فيه كثر هو كيف يحصل هؤلاء الباعة على كميات الوقود المستمرة تلك من دون انقطاع؟ “النهار العربي” سيحاول الإجابة عن هذا السؤال الذي يشكّل غرابةً في مشهد بلدٍ محاصرٍ نفطياً.
نسرق لئلّا نخسر
ثمة طرق عدة عملياً تشرح طبيعة هذا التوافر، الطريقة الأولى تكون شراء البنزين من المحطات من قبل أشخاص طبيعيين تربطهم معرفة بأصحاب محطات الوقود التي تكون مخصّصاتها الشهرية محدودة تكفي لعدد السيارات المسجّلة لديها، إذ، ماذا تفعل المحطات لتتمكن من توفير كميات هائلة وبيعها بالسوق السوداء؟
من المتداول لدى الجميع وبخاصةً أصحاب السيارات، أنّه لا توجد محطة وقود على الإطلاق لا تستولي على ما بين 5 إلى 10 ليترات من حصّة كل سيارة شهرياً (الحصة 50 ليتراً)، يتمّ ذلك عبر التلاعب بالعدادات وعلى مرأى من أجهزة رقابية تُتهم بالحصول على نسبتها من هذه العملية، وإلّا فلا تفسيرات أخرى لحالة السرقة الجماعية تلك في كل محطات البلد.
أحمد (اسم مستعار) شاب يعمل في إحدى محطات الوقود في ريف دمشق، يقول: “منذ اشتدت أزمة الوقود قبل سنوات صار موضوع الحسم من مخصّصات السيارة عرفاً متبعاً، ويتمّ اقتطاع نسبة متباينة بين محطة وأخرى، وكمية الوفر التي يتمّ تحقيقها يُصار إلى بيعها للسوق السوداء بعد أن يتمّ توزيع حصص لأشخاص معنيين في دوائر المراقبة”.
ويضيف: “هل تعتقد أنّ محطة الوقود رابحة؟ هي مشروع خاسر لو تمّ التعامل ضمنه بشكل قانوني والالتزام بهامش المبيع والربح، فهذه سياسة متبعة ولكن بين وقت وآخر لا بدّ من وقوع كبش فداء لئلا يُقال لا توجد رقابة، بالعموم الأمور محكومة بمبدأ (غض الطرف وتقاسم الأرباح)، ومع ذلك هناك مخاطرة بالبيع للسوق الموازية”.
بيع المخصصات
أما الطريقة الثانية التي رصدها “النهار العربي” فهي أنّ الكثير من أصحاب السيارات وجدوا طريقة لزيادة دخلهم عبر مخصّصاتهم من الوقود، فمثلاً هم الآن يحصلون على مخصصاتهم الشهرية بسعر 400 ألف ليرة سورية (29 دولاراً) ويبيعونها بسعر يقارب المليون (72 دولاراً) وهؤلاء الناس يمتلكون سيارات تحرّكاتهم فيها قليلة أو معدومة أو يستخدمون المواصلات العامة.
إياد رسلان موظف حكومي يملك سيارةً يعمد إلى بيع مخصّصاتها لتحقيق دخلٍ إضافي، يشرح ذلك بقوله: “صار راتبي بعد الزيادة الأخيرة 200 ألف ليرة، وثمّة نقل مؤمّن لمكان عملي، لذا تحركاتي بالسيارة قليلة أو شبه معدومة، فوجدت أنّه إذا بعت مخصّصاتي سأحصل على رقم يساوي أضعاف راتبي، وأنا بالطبع لا أبيعها في السوق السوداء، بل لأصدقائي أو جيراني، أربح من مخصّصاتي شهرياً نحو 600 ألف (43 دولاراً)”.
“الخردة” تحلّ المشكلة
ولعلّ الطريقة الثالثة هي الأكثر لفتاً للانتباه لما فيها من توصيف جرمي جنائي يتعلّق بالاحتيال، ويكون ذلك على اعتبار وجود آلافٍ اشتروا سيارات خردة لا تعمل، بمبالغ أقل من زهيدة ولكنها تحمل لوحات مرورية، وبالتالي يحصلون على مخصّصات ويبيعونها أو يستفيدون منها بشكل آخر كما يفعل الشاب مهيمن شقرا.
يقول مهيمن عن ذلك: “تحركاتي كثيرة في سيارتي، لذا أحتاج الكثير من البنزين وسعره المرتفع في السوق السوداء يكسر الظهر، لذا اشتريت سيارة لوحات سيرها عمومية (السيارة العمومية تحصل على مخصّصات 100 ليتر مدعوم شهرياً)، هي خردة لا تعمل نوعها بيك آب بيجو قديمة للغاية، اشتريتها بنحو 1000 دولار، والآن استفيد من بطاقتها الخاصة للحصول على 100 ليتر بنزين شهرياً إضافةً لمخصّصات سيارتي الأساسية”.
ويشير مهيمن الى أنّه من القلّة التي تستفيد من البنزين لمصلحة الاكتفاء الشخصي، فيما الآلاف الآخرون يستخدمون هذه الطريقة للكسب عبر بيع المخصّصات، الكسب الذي يصل الى نحو مليوني ليرة شهرياً (140 دولاراً).
البنزين اللبناني يوفّر الحلّ
أما الطريقة الرابعة لتوافر البنزين فهي عبر الحدود اللبنانية والذي يُباع على الحدود السورية – اللبنانية (المصنع) وعلى كامل الطريق من دمشق إلى المصنع، وهو بنزين لبناني سعره ليس منافساً نسبياً ولكنّه أقل من السوق السوداء ويشهد حركة شراء مرتفعة.
وتباع عبوة البنزين أقل من 9 ليتر بقليل بنحو 140 ألف ليرة سورية (10 دولارات)، ويكون مصدره السيارات العاملة على خطوط النقل بين البلدين.
على الطريق بين دمشق والحدود مع لبنان تنتشر عشرات الأكشاك التي تبيع المادة، وبكميات متنوعة، كلّما قلّت ارتفع ثمنها. “النهار العربي” أجرى جولةً على مقطع من الطريق وصولاً إلى الحدود، الأسعار بدت متشابهة نسبياً بين بائع وآخر مع فروقات سعرية ضئيلة لا تتعدّى نصف دولار في الغالون الواحد.
أبو سليمان أحد أولئك الباعة، كان متخوفاً جداً من الحديث عن الموضوع، لكنّه في النهاية تجاوب مع أسئلة قليلة فيما رفض الإجابة عن أخرى، مؤكّداً أنّ المصدر المورد هم سائقو السيارات، “البنزين اللبناني أنظف من السوري، وأقلّ ثمناً، لذا الإقبال متزايد ومستمر”، مشيراً الى أنّه لا توجد ضغوط تذكر عليهم.
البائع أوضح أنّ البنزين متوافر دائماً لكنّه يتعرّض لتبدّلات في سعره بين وقت وآخر بحسب الأسعار في دمشق وأسعار الموردين، ويقول: “وجودنا هنا يحلّ مشكلة للكثير من الناس، إذ يقصدوننا من قلب دمشق لقرب المسافة ولانخفاض أسعارنا عمّا يباع هناك”.
“على عينك يا تاجر”
لعلّ تلك الطرق هي أبرز أساليب تعامل السوريين وبلدهم مع الملف النفطي الشائك، وليضاف الوقود إلى قائمة المواد المفقودة نظرياً المتوافرة عملياً فقط مقابل دفع المزيد من المال الذي يعجز الناس عن تأمينه، وهم المنشغلون بتأمين رغيف الخبز.
“النهار العربي” لاحظ خلال إعداد هذا التقرير إمكان الحصول على وقود بسعر السوق السوداء من محطتي وقود نظاميتين بشكل مباشر خارج المخصصات الشهرية، ومن دون معرفةٍ مسبقة مع أصحاب المحطات، وهو أمرٌ لعلّ من المبكر الحديث عنه أو الجزم به قبل التأكّد من كونه أصبح حالةً عامة، وهو ما قد يحصل في القريب.
المصدر: النهار العربي