شفيق شقير
إن إنجاز صفقة تبادل في هدنة إنسانية مع غزة سيضعف ثقة الرأي العام الإسرائيلي بقيادته، باعتبار أن ما حققته الهدنة سياسيًّا في “ملف الأسرى والمحتجزين”، لم تستطع أن تحققه القيادة الإسرائيلية عسكريًّا طيلة أيام الحرب السابقة.
مقدمة
أسفرت جهود الوساطة المشتركة، التي تقودها قطر مع مصر والولايات المتحدة، بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، عن التوصل إلى اتفاق على هدنة إنسانية في قطاع غزة تستمر أربعة أيام قابلة للتمديد. يشمل الاتفاق تبادل 50 من المحتجزين من النساء المدنيات والأطفال في قطاع غزة في المرحلة الأولى، مقابل إطلاق سراح 150 من النساء والأطفال الفلسطينيين المحتجزين في السجون الإسرائيلية، على أن تتم زيادة أعداد المفرج عنهم في مراحل لاحقة من تطبيق الاتفاق. كما ستسمح الهدنة بدخول عدد أكبر من القوافل الإنسانية والمساعدات الإغاثية إلى غزة، بما فيها الوقود المخصص للاحتياجات الإنسانية، وضمان حرية حركة الناس من الشمال إلى الجنوب على طول شارع صلاح الدين.
أعلن حزب الله التزامه بالهدنة، باعتبار أن الجبهة اللبنانية جبهة “دعم وتضامن” مع غزة، رغم أن المواجهات عبر الحدود اتسعت وهي تصنع شروطها وظروفها الخاصة، وأصبح لديها من الدوافع والديناميات ما يجعلها جبهة قائمة بذاتها.
ملاحظات حول الهدنة
إن توصل الوسطاء إلى هدنة إنسانية بين إسرائيل وفصائل المقاومة في غزة لمدة أربعة أيام قابلة للتمديد، كشف عن عدة دلالات سياسية رغم الطابع الإنساني الملحِّ الذي طغى عليها. ويمكن اختصارها على شكل ملاحظات موجزة وفي نقاط عدة:
أولًا: إن مجرد عقد الهدنة يمثل تراجعًا إسرائيليًّا لاسيما حكومة الطوارئ (مجلس الوزراء الحربي) بقيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، فهذا الأخير كان يصر على أن تطلق المقاومة الفلسطينية “المحتجزين والأسرى” الإسرائيليين دون قيد أو شرط حتى إنه وضع هدفه الأساس بتدمير حماس، ولم يضف الهدف الآخر بوضوح، أي “إطلاق المحتجزين والأسرى”، إلا بعد ضغط الشارع الإسرائيلي. وبعد أن لقي الجيش الإسرائيلي مقاومة كبيرة من غزة، أصبح من الواضح أن هدف إسقاط “حكم حماس” وتدمير قدراتها العسكرية أمر عسير المنال، فأصبحت الأولوية هي لملف الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين على الإطلاق، ولكن باءت محاولات الجيش بالفشل في التوصل إليهم أو تحرير أي منهم. لا شك أن إنجاز صفقة تبادل في هدنة إنسانية سيفرِّغ أحد أهم أسباب الحرب من معناه، وسيُضعف ثقة الرأي العام الإسرائيلي بقيادته، باعتبار أن ما حققته الهدنة سياسيًّا في “ملف الأسرى والمحتجزين”، لم تحققه القيادة الإسرائيلية عسكريًّا رغم مرور 47 يومًا على الحرب، وكان من الممكن أن يتحقق قبل إعلان الحرب نفسها أو في فترة مبكرة جدًّا، ودون تعريض حياة المحتجزين للخطر أو فقد بعضهم، كما يمكن أن يتحقق في بقيتهم لاسيما “الأسرى” العسكريين.
ثانيًا: إن حظوظ تمديد الهدنة مرة أخرى عالية جدًّا، ويطمح الوسطاء، أو كما عبَّرت قطر عن أملها على الأقل، إلى أن تتحول الهدنة أو الهدن الإنسانية إلى وقف دائم أو طويل لإطلاق النار. لكن بالمقابل، إن استئناف إسرائيل للحرب بعد هذه الهدنة أو بعد تمديدها، عال جدًّا أيضًا، وبهذا قد تتحول الحرب إلى مراحل تفصل بينها هدن إنسانية، خاصة أن إسرائيل لم تنتهِ بعد إلى أي تصور واضح حول اليوم التالي للحرب، ولا تزال تعلن استعدادها لمواصلة الحرب بهدف عدم عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول. كما أن نتنياهو يخشى أن تفتح الهدن الإنسانية وإطلاق بعض المحتجزين، الباب أمام الحديث السياسي في إسرائيل، وهو يدرك أنه سيتحمل مسؤولية ما انتهت إليه الأوضاع بعد “طوفان الأقصى” وقد ينتهي سياسيًّا فضلًا عن سقوط حكومته، لأنه رئيس الوزراء والمسؤول الأول، ولأنه وحكومته اليمينية المتطرفة دينيًّا وصهيونيًّا، كانا سببًا رئيسيًّا في استفزاز الفلسطينيين والاستخفاف بهم، سواء في الضفة والقدس والأقصى، أو حتى في داخل الخط الأخضر.
ثالثًا: ستكون الهدنة مفيدة للفلسطينيين لأنها ستخفف عنهم، ولو نسبيًّا ولفترة محدودة، بعض تداعيات الحرب وأعبائها. فهي ستوفر للسكان بعض أسباب البقاء والصمود، من الغذاء والدواء والماء والوقود وبعض ما يلبي أدنى احتياجاتهم الضرورية، خاصة أنهم يتعرضون لحرب “تجويع وتطهير” لدفعهم نحو الجنوب على الأقل فضلًا عن إعلان قادة إسرائيل أن الحل الأمثل للأزمة الحالية مع غزة هو تهجير أهلها ليعيشوا في “الشتات”. وقد تعطي الهدنة فرصة أيضًا للمقاومين لاستعادة أنفاسهم وإعادة تنظيم صفوفهم أو ترتيب أوضاعهم وما يقرب من ذلك. ولكن الهدنة أيضًا قد تشجع بعض أهالي غزة الذين لا يزالون في الشمال على النزوح نحو الجنوب، لاسيما أنه لا يزال هناك أعداد منهم يقدرون بمئات الآلاف، ويشكِّلون عائقًا كبيرًا أمام سياسة الترحيل الإسرائيلية.
رابعًا: سيكشف اليوم التالي للهدنة حجم الدمار ومستوى “الإبادة” في غزة، وسيعزز من الأصوات المناهضة للحرب الإسرائيلية، لاسيما أن الرأي العام العالمي المندد بإسرائيل في ازدياد وشهدت العواصم الغربية الأساسية مظاهرات ضخمة ضد الحرب أو متضامنة مع أهل غزة، حتى اخترقت أصواتها جدران المؤسسة السياسية الغربية. وقد تراجعت دول عن دعمها للحرب ودعت لإيقافها، فرنسا على سبيل المثال، كما أن الإدارة الأميركية للرئيس بايدن تلقى اعتراضات من داخلها لنهجها الداعم للحرب على غزة، وكذلك من داخل حزبها الديمقراطي، فضلًا عن تزايد نسبة الأميركيين الذين يرون أن على إسرائيل إعلان وقف إطلاق النار (68% بحسب استطلاع رويترز وإبسوس نُشر في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2023)، كما أن شعبية بايدن لدى الأميركيين العرب في تراجع (بحسب استطلاع نشره المعهد العربي الأميركي في 31 أكتوبر/تشرين الأول، تراجع التأييد الانتخابي العربي لبايدن من 59٪ عام 2020 إلى 17٪)، وذلك فضلًا عن تراجع شعبيته بشكل عام، كل هذا بينما هو وحزبه مقبلان على انتخابات حاسمة في العام المقبل (2024). كلما استطاعت الهدنة أن تقدم خيارات سياسية معقولة وبديلة عن الحرب، فإن الدول الغربية ستكون أكثر استعدادًا للانحياز إليها.
خامسًا: من المتوقع أن تكسر الهدنة زخم الحرب، وأن تحتوي بعض أهم عوامل تأجيجها أو عوامل الدفع نحو استمرارها، لاسيما أن النافذة التي أتيحت لإسرائيل وحربها أخذت تضيق، ففضلًا عن فشل إسرائيل في تحقيق أي من أهدافها المعلنة من خلال الحرب، فإن هناك أسبابًا أخرى تدفع نحو احتواء الحرب وتتصل بانشغالات واشنطن وأوروبا بقضايا أخرى من أهمها استمرار الحرب الأوكرانية، وبخشية واشنطن من أن تتسع الحرب مع لبنان حيث يتسارع تطور الجبهة هناك بين إسرائيل وحزب الله وقد تتحول إلى حرب إقليمية.
خاتمة
إن الهدنة تشكِّل فرصة لكل الأطراف لتعيد تموضعها، وستشكل استراحة لأهالي غزة من حرب مرشحة للاستمرار على مراحل، ولا يبدو أن هدف تهجير أهالي غزة قد طوي، وهو الذي تسعى إليه إسرائيل دون أن تضعه في صدارة أهداف الحرب، إلا أن الاندفاعة نحوه تبدو في تراجع فحسب. ورغم أن غاية الهدنة إغاثة أهل غزة وتعزيزها، إلا أنها تستبطن بطريقة وظروف تطبيقها، السعي الإسرائيلي وبعض حلفائها أيضًا، نحو التحكم بالقطاع من المدخل الاقتصادي والإنساني، لأن فتح المعبر ودخول المساعدات جاء في سياق هدنة مشروطة وعملية “تبادل للأسرى والمحتجزين”. إلا أنه بالمحصلة، من الصعب أن تستعيد إسرائيل زخم الحرب كما كان سابقًا، عسكريًّا ودبلوماسيًّا وإعلاميًّا وبنفس الوتيرة السابقة، في حين أن المقاومة الفلسطينية ستتعزز مبرراتها الأخلاقية بعد الهدنة وسيتزايد التعاطف مع أهالي غزة، وقد تكسب دولًا إلى جانبها بوضوح أكبر.
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات
vh0m7b