زياد ماجد
أحدث العدوان على غزة استقطابات داخل الدول الأوروبية بين قوى سياسية متماهية مع الموقف الإسرائيلي ورأي غربي متعاطف مع الفلسطينيين ويدعو لوقف العدوان، واستقطاب آخر بين الدول الأوروبية نفسها بين حكومات تتعهد بمساندة مطلقة لإسرائيل ودول تدعو لوقف القتال وتنتقد الحكومة الإسرائيلية.
مقدمة
دخلت الحرب الإسرائيلية الشاملة على قطاع غزة شهرها الثاني، وسط عمليات قتل وتدمير وتهجير وتنكيل واجتياح بري لم يسبق لها في العقود والحروب السابقة على القطاع المحاصر أي مثيل.
وبرزت في موازاة هذه الحرب مواقف دولية كثيرة، أظهرت تضادًّا بين معظم حكومات أوروبا وأميركا الشمالية من جهة، ومعظم حكومات أميركا الجنوبية وإفريقيا وآسيا من جهة ثانية.
وإذا كانت بعض المواقف مألوفة أو غير مفاجئة بالنظر لتجارب سابقة، فإن المفاجئ هذه المرة هو التماهي بين التصريحات والمصطلحات السياسية المستخدمة من قبل مسؤولين رسميين وإعلاميين أوروبيين، لاسيما في فرنسا وألمانيا، وتلك المستخدمة من قبل القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين.
يُحيلنا الأمر إلى ضرورة قراءة المتغيرات على الساحة الأوروبية لفهم أسباب التماهي المذكور، وإلزامية التذكير بأن المواقف الحكومية لا تختزل التنوع والاختلاف داخل المجتمعات المعنية، ولا تغيِّب الصدام الحاد القائم أحيانًا بين أحزاب سياسية وحركات اجتماعية ونقابية ترفض الدعم المقدم من حكومات بلدانها لإسرائيل.
على أن ما يجري راهنًا ستكون له آثار وتداعيات كثيرة ستظهر تباعًا على الخريطة السياسية الأوروبية وعلى مواقع بعض الأحزاب وقواعدها الشعبية. وليس من المستبعد انفضاض تحالفات قائمة ونشوء تيارات يقودها أفراد من الجيل الجديد الذي أدخلته الحرب في غزة إلى عالم السياسة وجعلته يبحث عن هوية لا انفصام فيها بين الشعارات والممارسات وعن مواقف تبتعد عن كل ازدواجية في المعايير.
عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول: ما قبلها وما بعدها
شكَّل الهجوم العسكري الواسع الذي شنَّته حركة “حماس”، في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، في غلاف غزة محطةً جديدة من محطات الصراع مع إسرائيل في القطاع المحاصر والمتعرض للقصف والتنكيل الدوري منذ العام 2007. وشكَّل حجم الخسائر العسكرية والمدنية الإسرائيلية في هذا الهجوم صدمة في معظم الأوساط الغربية، فاقمتها الصدمة المشهدية التي أتاحت متابعة بعض مراحل الهجوم واكتشاف ضخامته.
أدى الأمر إلى تغطية وسائل الإعلام الغربية المرئية للأحداث على نحو جعلها وكأنها جرت وتجري في الغرب نفسه، وإلى سيادة السردية الإسرائيلية لفترة، وما فيها من مقولات تغيِّب ما قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وتُقصي كل ما يتعلق بتاريخ الاحتلال والاستيطان والحصار، أو تساوي بين هجوم “حماس” وبين هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 في نيويورك و13 نوفمبر/تشرين الثاني في باريس، مدعية أن الظروف والمؤديات وأيديولوجيا المهاجمين هي نفسها، وأن من “حق إسرائيل الرد والدفاع عن نفسها”(1).
بموازاة ذلك، تسارعت التصريحات والمواقف الصادرة عن المسؤولين في أوروبا وأميركا الشمالية، واعتُمدت فيها مصطلحات ومفردات هي نفسها المُعتمدة من قبل المسؤولين الإسرائيليين، ودعمت الحكومات الغربية نظيرتها الإسرائيلية في قرارها شنَّ الحرب الشاملة على قطاع غزة بغية “القضاء على حماس”(2).
على أن الأمور تبدلت تدريجيًّا وجزئيًّا مع الوقت، وفرضت الأصوات المعارضة للسياسات الداعمة لإسرائيل نفسها بالتزامن مع اتساع التظاهرات والتجمعات المناصرة للفلسطينيين والمطالبة بوقف إطلاق النار وبرفع الحصار عن قطاع غزة في معظم المدن الغربية الكبرى وجامعاتها.
وأسهمت الصور والشهادات والمعلومات الواردة من القطاع، الموثقة للجرائم التي ترتكبها إسرائيل، كما أسهمت تقارير المؤسسات الدولية الإنسانية والصحية والحقوقية، في توسيع أطر الرفض لدعم الحكومات الأوروبية لإسرائيل، وبدأت بعض الانتقادات الرسمية “لممارسات تل أبيب” تظهر في العديد من الأوساط الدبلوماسية، ولو من دون تغيير جدي حتى الآن في المواقف الرسمية(3).
كيف تطورت الأمور والمواقف والضغوط الشعبية في أوروبا؟ وما خريطة القوى السياسية الأوروبية تجاه المسألة الفلسطينية والحرب على غزة؟ وما تبعات كل ذلك في المرحلة المقبلة؟
أوروبا بين التماهي مع أميركا والخصوصيات التاريخية
تماهت مواقف حكومات أوروبا إذن، عند شن إسرائيل حربها على غزة، مع المواقف الأميركية والإسرائيلية. ولم تتميز إلا المواقف الأسكتلندية والإسبانية والأيرلندية والبلجيكية الداعية منذ أيام الحرب الأولى إلى وقف إطلاق النار، إضافة إلى تمايز مسؤولين معروفين من القوى السياسية اليسارية في دول مثل اليونان والبرتغال وفي أطياف من اليسار الفرنسي عن الكلام المهيمن أو السائد.
لتفسير هذا التماهي البالغ مستوى غير مسبوق أوروبيًّا، على الأقل خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول، يمكن التوقف عند ثلاث مسائل:
المسألة الأولى تتعلق بحرب روسيا على أوكرانيا واكتشاف أوروبا مدى حاجتها الإستراتيجية إلى أميركا فيما يخص أمنها القاري وقدرتها على التعامل مع التحديات العسكرية التي تفرضها عليها روسيا. دفع الأمر معظم المسؤولين الأوروبيين إلى اعتبار التقارب مع واشنطن أفضل السبل في مرحلة استقطاب كوني وصراع مسلح واسع النطاق أصاب أوروبا نفسها. فكانت النتيجة فيما خص فلسطين اعتماد الأوروبيين نفس المواقف الأميركية من دون مسافة أو تمايز كما كان يجري في السابق.
المسألة الثانية ترتبط بصعود العنصرية تجاه المسلمين نتيجة تقدم تيارات أقصى اليمين أو اليمين المتطرف في معظم الدول الأوروبية، ووصول بعضها إلى السلطة أو أبوابها. ففي فرنسا، وصلت مارين لوبين للمرة الثانية إلى الدور الثاني في الانتخابات الرئاسية وصار حزبها أبرز الأحزاب الفرنسية. وفي ألمانيا، تقدم الخطاب اليميني المتطرف، ولو لم يبلغ السلطة، وكذلك الأمر في النمسا. وفي الدول الإسكندنافية، حقق اليمين المتطرف خروقات سياسية بعد عقود من سيادة الاشتراكية الديمقراطية وبات مشاركًا في السلطة في السويد، وتقدم أيضًا في هولندا، من دون أن ننسى وصول تحالفه إلى السلطة في إيطاليا وسلوفاكيا، وقبلهما في المجر وبولندا (قبل أن يتراجع بعض الشيء في الانتخابات البولندية الأخيرة).
واليمين المتطرف هذا قدَّم عداءه للإسلام والمسلمين والمهاجرين من إفريقيا على معاداته التاريخية للسامية. فبالنسبة إلى كثير من قادته يشكل تحطيم الإسرائيليين مجتمعًا فلسطينيًّا أو مجتمعًا مسلمًا أمرًا نموذجيًّا يمكن يومًا الاقتداء به في سبل التعامل مع “سكان أصليين” من مستعمرات سابقة باتوا في قلب أوروبا، مهاجرين مقيمين أو حاملي جنسية يمثلون ثقلًا ديمغرافيًا “مقلقًا”.
المسألة الثالثة التي أدت إلى التبدل في السلوك السياسي الأوروبي تجاه المنطقة تتصل بآليات اتخاذ القرار وانتقالها من وزارات الخارجية إلى رؤساء الدول ومستشاريهم. ففي فرنسا كما في عدد من الدول الأخرى، يبدو الرئيس ومحيطه أصحاب القرار بعيدًا أحيانًا عن المؤسسة الدبلوماسية. وهذا إذ كان مألوفًا في الحالة الأميركية، إلا أنه في الحالات الأوروبية، والفرنسية بخاصة، يبدو منحى آخذًا في التزايد منذ سنوات، وهو يعني خروج القرار من مسارات تغذيها خبرات الدبلوماسيين والباحثين المعنيين ودقتهم في انتقاء المفردات والمصطلحات، وانتقالها إلى مادة ينفرد في البحث فيها محيط الرئيس المباشر، المشكَّل من مستشاريه ومن أفراد نافذين من أصدقائه أو من مجموعات ضغط أو مراكز تفكير واستطلاع رأي من خارج جسم الدولة. وهذا ما بات البعض يسميه بخصخصة قرارات السياسة الخارجية. وهو ما يفسر بروز أخبار عن استياء ومراسلات في أوساط دبلوماسية ولدى موظفين في الخارجية الفرنسية كما داخل الاتحاد الأوروبي وبين ممثليه (وقبل ذلك في أميركا نفسها)، يرون في مواقف ماكرون وسواه من المسؤولين انحيازًا أعمى لحكومة نتنياهو(4).
بالعودة إلى مواقف القوى السياسية الأوروبية الأساسية، المتمثلة في البرلمان الأوروبي والمؤثرة في تشكيل الحكومات وفي الرأي العام، يمكن القول: إنها تتوزع على خمسة تيارات كبرى، تسري قسمتها إلى حدٍّ بعيد على معظم بلدان أوروبا (فيما عدا إنكلترا المستمرة في تقليد الثنائية الحزبية، وألمانيا حيث للتاريخ المعاصر، لاسيما خلال الحرب العالمية الثانية، ثقل كبير على السياقات السياسية ومفردات خطابها حتى الآن).
فهناك، أولًا، تيار أقصى اليمين أو اليمين المتطرف الذي أشرنا إليه والذي توسع حضوره كثيرًا منذ العام 2015. وهذا التيار يخوض معركة حضارية مع الإسلام والمسلمين الوافدين إلى أوروبا، ومراجعه السياسية والفكرية متعددة، لكن نقطة التقاطع بين مكوناته هي العداء للهجرة، والعداء للمؤسسات الدولية الكبرى. وبين أطيافه ثمة مَنْ وَفَد من مجموعات فاشية، وثمة من التحق به قادمًا من اليمين التقليدي أو من بيئات ريفية محافظة، وثمة من وجد فيه تنفيسًا عن حقده وغضبه على النخب القيادية أو ما يسميه “الاستبلاشمنت”. وغالبية هؤلاء، إن لم نقل جميعهم، يؤيدون الآن إسرائيل، لكنهم في مفارقاتهم وتناقضاتهم يحافظون على نظريات تآمر ما زال جوهرها معاديًا للسامية، وينتقدون أميركا الملونة والمعولمة ويفضلون عليها فيما يبوحون به أو ما يُضمرونه روسيا الأكثر “بياضًا” و”مسيحية”.
التيار الثاني هو ما يُسمى اليمين التقليدي (أو اليمين الجمهوري في الحالة الفرنسية). وهو يمين حَكَمَ في أكثر العواصم الأوروبية لفترات طويلة، أولوياته عادةً اقتصادية، وصلاته وثيقة بالمؤسسات الدولية والقارية وبأدوات العولمة المالية، وخطابه مناصر لإسرائيل وقريب من الخطاب الأميركي ويصل في الحالة البريطانية إلى حدِّ التماثل معه. واليمين المذكور يخشى فقدان المزيد من الحضور لصالح اليمين المتطرف فيزايد أحيانًا عليه في قضايا الإسلاموفوبيا وفي قضايا الهجرة وصولًا إلى قضايا السياسات الخارجية.
التيار السياسي الثالث هو ذلك المنحدر من عائلات الوسط السياسية، أي تلك المؤيدة لحرية رؤوس المال والاستثمار، لكن مع عقلنتها بخيارات وسياسات اجتماعية. ويتميز هذ التيار عن أطياف اليمين بمواقف تتجنب المنحى العنصري ولا تخضع لابتزاز اليمين المتطرف. ويفترق في المقابل عن اليسار في القراءات الاقتصادية وفي المسائل المجتمعية والبيئية. والوسط مشارك حليف في السلطة في أكثر من بلد أوروبي، ومُمثل في البرلمانات، وموقفه يميل أكثر فأكثر إلى القول بأولوية وقف النار والبحث عن حل سياسي. كما أن العديد من قياداته يذكِّرون دوريًّا بتدهور الأحوال في الضفة الغربية المحتلة منددين بالاستيطان واعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين.
التيار الرابع هو تيار الاشتراكيين والاشتراكيين الديمقراطيين، الذي بات يصنَّف في خانة يسار الوسط، وفقد كثيرًا من قوته ومن حضوره في العقود الماضية، لكنه ما زال يمتلك قدرة تمثيل في الانتخابات المناطقية والتشريعية نتيجة لعلاقاته التاريخية وشبكاته داخل الإدارات العامة في أكثر من بلد. ولهذا التيار إرث في السلطة أو في التأثير على التشريعات، ومنه انبثقت نخب حَكمت لفترات طويلة في فرنسا والدنمارك والسويد والنرويج وهولندا وألمانيا. وأحزابه بمعظمها، في هذه المرحلة، لاسيما في الدانمارك والسويد وهولندا وألمانيا، أعربت عن دعم لإسرائيل، وفي أوساطها تيارات كانت تاريخيًّا حليفة للصهيونية الاشتراكية ولحزب العمل الإسرائيلي. ويكرر موقف هذه الأطياف أن هناك ضرورة لحل سياسي، وأن العنف “ليس الإجابة الوحيدة”. ولكنه يُعبِّر عن ذلك فقط بعد تكرار لازمة “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، ويتجنب انتقاد فظائعها وجرائم حربها.
التيار الخامس من الأطياف السياسية هو الذي صار يُصطلح على تسميته بتحالف اليسار وأقصى اليسار، ولو أن فيه تمايزات كثيرة. فهناك في صفوفه قوى وافدة من أحزاب شيوعية بدلت اسمها، أو أحزاب شيوعية لم تبدل الاسم، وفيه أيضًا من تركوا أحزابًا اشتراكية لاعتبارهم أن هذه الأحزاب نحت نحو الوسط أو اليمين، وفيه مجموعات تروتسكية، وفيه حركات اجتماعية صاعدة، تعتبر قضايا الحريات الفردية والتسامح ومعاداة العنصرية والمسائل النسوية والبيئية أولويات عالم اليوم، وتطل من خلالها على باقي القضايا بما في ذلك الاقتصاد والاجتماع السياسي. يُضاف إلى هذه المكونات حركات منبثقة من حملات نقابية أو مطلبية تشكلت في السنوات الأخيرة. وتتميز هذه المكونات جميعها، بمعزل عن أحجام التمثيل الشعبي (الذي يبلغ حدودًا واسعة في حالة “فرنسا العصية” أو “بوديموس” الإسبانية وغيرهما من الحالات التاريخية أو الناشئة في إيرلندا واليونان والبرتغال مثلًا)، بالنشاط والحيوية والحضور في تنظيم الأنشطة الثقافية والمواطنية. وهي برزت بمواقفها الرافضة لتأييد إسرائيل مذكِّرة بارتكابها جرائم ضد الإنسانية وأبدى بعضها مناصرة من دون لبس لحقوق للفلسطينيين ولكفاحهم من أجل الحرية. لكنها في المقابل اختلفت بشأن الموقف المصطلحي من “حماس”. البعض أطلق عبارة الإرهاب على عمليتها الأخيرة، والبعض الآخر رفض المصطلح وعدَّه سياسيًّا ولَو “أنه أدان قتل المدنيين الإسرائيليين”.
وعلى مسافة وثيقة من مكونات هذه العائلة الخامسة نجد “الخضر” أو البيئيين المشاركين في الدعوات في معظم العواصم الأوروبية لتظاهرات تضامن مع الفلسطينيين ولَو وسط ارتباكات وانقسامات.
ويفيد القول هنا، أن أوساطًا اجتماعية كبيرة منحدرة من الهجرات العربية والمغاربية والإفريقية، أو من المواطنين المسلمين في أكثر من دولة أوروبية استفادت من هذا التيار الخامس وحلفائه (أو هي بالأساس منخرطة في قواه) لتشارك في التظاهرات الواسعة ضد الحرب الإسرائيلية في باريس ولندن وبرلين وستوكهولم ومدريد وغلاسكو ودبلن وغيرها، ومثلها فعل طلاب وطالبات ثانويون وجامعيون، من خلفيات اجتماعية مختلفة، لا ينتسب أكثرهم إلى أي حزب، ويتسيسون الآن على وقع الحرب والمواقف الداخلية في بلادهم والدولية عامةً منها. وهذا سيكون له بلا شك تأثير على المقبل من الأيام لجهة تأسيس جمعيات وحركات سياسية جديدة والبحث عن ائتلافات ومواقف مشتركة لمواكبة الانتخابات القادمة في أكثر من بلد وعلى أكثر من مستوى (أوروبي ووطني ومحلي).
فرنسا وأحوالها المتوترة
وسط هذه التطورات والتحولات في الخريطة السياسية الأوروبية، لابد من الإشارة إلى أن ثمة خصوصية للمشهد السياسي الفرنسي. ففرنسا هي البلد الأوروبي حيث العدد الأكبر من المواطنين المسلمين واليهود، وحيث العدد الأكبر من المهاجرين المقيمين المغاربيين والإفريقيين المسلمين. وهذا يجعل الصراع الفلسطيني-الاسرائيلي يأخذ أبعادًا تمس ملايين الفرنسيين مباشرة، بعائلاتهم وبعواطفهم وبمواقفهم السياسية المختلفة(5).
وفرنسا هي أيضًا البلد الغربي الوحيد الذي لم يتقادم بعدُ تاريخه الاستعماري في المنطقة العربية وتحديدًا في الجزائر. وشأن الأخيرة يُنظر إليه في الكثير من السجالات كشأن داخلي فرنسي لاعتبارات ثلاثة، الأول: مرارة الهزيمة الفرنسية وطرد مئات الألوف من الفرنسيين والجزائريين المتعاملين معهم بعد الاستقلال الجزائري العام 1962. الثاني: الهجرة الكثيفة اللاحقة للجزائريين نحو فرنسا (وسط حاجة اقتصادية فرنسية لعملهم في قطاعات مختلفة)، وحصول كثير منهم (كما من المغربيين والتونسيين) على الجنسية، بما جعل الآن أبناءهم وأحفادهم فرنسيين مكتملي الحضور وبأسمائهم وهوياتهم المركبة، بينهم من ظل من ذوي التعليم والدخل المحدودَيْن مقيمًا في ضواحي المدن المتراجع الاهتمام والإنفاق الحكومي فيها، وبينهم من ارتقى اجتماعيًّا وتعليميًّا وبات له صوت ومواقف ومواقع في المستشفيات والجامعات والنقابات والأحزاب والإعلام والتجارة والاستثمار وغير ذلك من قطاعات عمل الطبقة الوسطى والبرجوازيات المدينية. وهذا يثير حنق العنصريين، ويؤدي في حالات بعض الضواحي والمدن، حيث يتوازى مسار التهميش الاقتصادي والاجتماعي مع مسارات تمرد وتجاوزات للقوانين وإعلاء لهوية إسلامية، يؤدي إلى صدامات دورية مع الشرطة. والأخيرة، صارت في سلوكياتها أقرب إلى السلوكيات الكولونيالية في مناطق يسميها اليمين المتطرف، الذي يصوِّت لصالحه 57 في المئة من عديد الشرطة، “الأراضي الخارجة عن سيادة الجمهورية الفرنسية”.
الاعتبار الثالث يرتبط بالعلاقة الرسمية المأزومة بالإسلام وحضوره في الحيز العام في فرنسا. فالعلاقة هذه إضافة إلى كونها صدامية من الأساس، بسبب الماضي الاستعماري في الجزائر وإفريقيا ثم الهجرات من هناك نحو فرنسا، هي صدامية راهنًا أيضًا بسبب صرامة السياسات المرتبطة بالعلمانية. ويفيد هنا ذكر أمرين متعلقين بالعلمانية الفرنسية. فهي راديكالية استهدفت على مدى قرن من الزمن الكنيسة الكاثوليكية وهمشتها تمامًا. وهي تبدو مُستهدفةً منذ عقدين الإسلام بمظاهره ومسلكياته المرئية، كالحجاب والطقوس الخاصة بالصلاة والصيام والأكل الحلال والتمرد على مواد تدريسية تقارب الأديان وفق منطق تاريخي معزول عن شؤون الإيمان والعقيدة. وما يعقِّد أمر هذه العلاقة أكثر، أن تأويل العلمنة بات، ولَو على النقيض مما تنص عليه القوانين الدستورية الفرنسية، يراقب الناس في يومياتهم وملبسهم عوض تركيزه على علمانية الدولة وحيادها تجاه الأديان والمتدينين. وهذا يتسبب بالطبع بتوترات موسمية تفاقمها الأحوال الاقتصادية وعنف الشرطة وخطاب الإسلام الراديكالي المتصاعد ووسائل التواصل الاجتماعي، إضافة إلى مشاهد الحروب الوافدة من الشرق الأوسط، لاسيما من الخريطة الفلسطينية.
هذه الاعتبارات تفسر بعض جوانب الخصوصية الفرنسية في أوروبا وأسباب الموقف الرسمي المرتبك والمنحاز لإسرائيل، والمتراجع مؤخرًا بعض الشيء عن سفور هذا الانحياز بعد تعاظم الانتقادات له وتزايد التظاهرات الشعبية ضده. ورغم تقاطع هذا الموقف مع المواقف الأميركية (والبريطانية والألمانية) كما أسلفنا، إلا أن الخصوصيات في الحالات المذكورة تتباين؛ إذ تتعايش في أميركا مثلًا الهويات على نحو مغاير، ولو أن المشاكل والأزمات تنشأ هناك أيضًا بين الحين والآخر.
خلاصة
لعله من الوجيه القول في ختام هذا النص المُستعرِض المواقف الأوروبية الرسمية أو الحزبية من الحرب الإسرائيلية على غزة: إننا أمام حالة ستتسم على المدى البعيد بالمزيد من التناقضات والتوترات لأسباب عديدة.
السبب الأول مفاده أن الهوة بين كثرة من الحكومات الداعمة لإسرائيل وقطاعات واسعة من الرأي العام في بلدانها آخذة بالاتساع على نحو بات يقلق الحكومات نفسها. نرى الأمر، بعد فرنسا، في إنكلترا حيث ليس إبعاد وزيرة الداخلية عن منصبها ببعيدٍ تمامًا عن تداعيات ذلك، ولَو أن له أسبابًا أخرى ترتبط بعلاقتها المتوترة مع جهاز الشرطة.
السبب الثاني منطلقه الخلافات بين الحكومات الأوروبية نفسها وتصاعد أصوات إسبانية وبلجيكية وإيرلندية تطالب بعقوبات ضد إسرائيل وبتعديل اللهجة الرسمية والمصطلحات تجاه الحرب على غزة.
والسبب الثالث مرده احتمالات أن يطرأ تعديل ولو جزئيًّا على الموقف الأميركي، خاصة لجهة طول الحرب ووضع جنوب قطاع غزة وأحوال الضفة الغربية والقدس الشرقية حيث يقتل الجيش والمستوطنون الإسرائيليون فلسطينيين يوميًّا ويسلبونهم أراضيهم وأملاكهم. وللعلم، فإن البيئة السياسية للحزب الديمقراطي، وعلى العكس من منافستها الجمهورية شديدة الدعم لإسرائيل، منقسمة على ذاتها، ويُرجح أن تتصاعد الانقسامات فيها بين جناح يساري تواليه قاعدة شعبية شابة وطلابية، وتدعمه عادة شرائح مجتمعية من الأميركيين السود والمنحدرين من أصول عربية ومن اليهود التقدميين المعارضين للصهيونية من جهة، وأجنحة أخرى أقل “راديكالية” وأقرب إلى الخط التاريخي للحزب، داعمة لإسرائيل، على طريقة جو بايدن وأنتوني بلينكن، من جهة ثانية. وإذا كان الجناح الأول ما زال أقليةً في الحزب، إلا أن معارضته الحادة لسياسة بايدن تجاه إسرائيل قد تعني تراجع حظوظ الأخير في الرئاسيات الأميركية بعد سنة من الآن، أي في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، وهذا يدفع كثرًا في الإدارة الحالية وفي محيط بايدن إلى البحث عن تغيير يستوعب المعارضة ويُرضيها، ولو بعد تأخير ومماطلة.
يضاف إلى كل ما ورد أن مواقف المنظمات الحقوقية الأميركية والدولية، ومواقف منظمات الأمم المتحدة بأكملها، ومثلها أصوات أكاديميين معروفين في مجال دراسات “الإبادة الجماعية”، تنتقد منذ بدء جولة الحرب الحالية السياسات والتصريحات والعمليات الإسرائيلية، وتتهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وقد دفع الأمر دولًا (هي جنوب إفريقيا وبوليفيا وبنغلاديش وجزر القمر وجيبوتي)، وأفرادًا (جميعهم من الحقوقيين)، ونوابًا (من برلمانات من حول العالم) إلى التقدم بطلبات للمحكمة الجنائية الدولية للتحقيق بشأن الأوضاع في “دولة فلسطين” التي وقَّعت على اتفاقية روما الخاصة بعمل المحكمة ونظامها. وهذا كله له أثر في تكوين وعي قانوني لابد أنه سيزيد من الضغط على الحكومات الداعمة لإسرائيل والمدافعة عن حربها المفتوحة.
في أي حال، لن تكون الأمور أوروبيًّا وأميركيًّا وعربيًّا ودوليًّا كما كانت فيما خصَّ القضية الفلسطينية بعد توقف القصف والقتل. فالقناعة (الموهومة) التي ترسخت في السنوات العشر الأخيرة لدى الإدارات الحكومية الغربية وبعض مثيلاتها العربية وزعمها أن القضية الفلسطينية لم تعد مركزية عربيًّا، وأن التطبيع بين عدد من الدول العربية وإسرائيل (البحرين والإمارات ثم المغرب والسودان، إضافة إلى التواصل السعودي مع إسرائيل ووجود اتفاقات سابقة بين مصر والأردن وإسرائيل)، يكفي للإطاحة بما تبقى منها وحصرها في إطار تنموي اقتصادي، هذه القناعة سقطت الآن. ولن يكون من اليسير لأحد ترميمها أو تجاهل إلزامية العمل من جديد على مسارات سياسية تُعيد فلسطين إلى قلب المعادلات، وتطرح بالطبع تحديات جديدة، لا تبدو الإجابة عنها اليوم ممكنة أو واقعية.
زياد ماجد – أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في باريس .
مراجع
1) ترددت هذه المقولة في تصريحات مسؤولين أوروبيين وأميركيين، بينهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه الذي قال، في 24 أكتوبر/تشرين الأول 2023، خلال زيارته لإسرائيل: إن “فرنسا تقف مع إسرائيل وإنهما عرفا نفس الإرهاب”.
ماكرون يدعو من إسرائيل لتوسيع التحالف ضد تنظيم الدولة لمحاربة حماس، الجزيرة نت، 24 أكتوبر/تشرين الأول 2023، (تاريخ الدخول: 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2023)، https://shorturl.at/oKN29
2) قال المسؤولون الألمان والفرنسيون والإنكليز ومثلهم فعلت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فان ديرلاين، إنهم يدعمون إسرائيل “في حقها في الدفاع عن نفسها في مواجهة الإرهاب”. وذهب الرئيس الفرنسي، في 24 أكتوبر/تشرين الأول، إلى حدِّ اقتراح “تحالف دولي ضد حماس”، قبل أن يخفف قصر الإليزيه ووزارة الخارجية من وقع تصريحاته ويتحدثان عن تعاون أمني وتبادل خبرات وليس تحالفًا. من جهتهم، قرر الأميركيون مضاعفة مساعداتهم العسكرية والمالية لإسرائيل وأرسلوا قطعًا حربية إلى “الشرق الأوسط” لمواكبة التطورات الميدانية.
مخزون عسكري أميركي في إسرائيل بقيمة 4.4 مليارات دولار.. هل تلجأ له تل أبيب؟، الجزيرة نت، 10 أكتوبر/تشرين الأول 2023، (تاريخ الدخول: 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2023)، https://shorturl.at/qt146
3) طالبت عدة كتل نيابية يسارية في البرلمان الأوروبي بوقف فوري لإطلاق النار. كما طالبت إيرلندا وإسبانيا وبلجيكا بالأمر. واضطر الرئيس الفرنسي خلال مقابلة مع محطة BBC، في 11 نوفمبر/تشرين الثاني، إلى القول: إن “قتل الأطفال والنساء لا مبرر له” وإنه “حان وقت البحث في وقف الحرب”. وانعكس كل ذلك تصويتًا أوروبيًّا غربيًّا (فرنسا والبرتغال وإسبانيا وبلجيكا والدنمارك والنرويج وإيرلندا وسويسرا وأندورا ومالطا ولوكسمبورغ، إضافة إلى سلوفينيا والبوسنة) في الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى جانب “هدنة إنسانية فورية”، في 27 أكتوبر/تشرين الأول، بعد تعذر تمرير مشروع برازيلي، في 18 أكتوبر/تشرين الأول، في مجلس الأمن حول الموضوع نفسه بسبب قرار الفيتو الأميركي. ثم عاد مجلس الأمن، في 15 نوفمبر/تشرين الثاني، ليصوِّت لإقامة هدن وممرات إنسانية وإطلاق الرهائن الإسرائيليين من دون اعتماد أميركا للفيتو؛ إذ اكتفت -كما روسيا وبريطانيا- بالامتناع عن التصويت لكن القرار ظل معلقًا في انتظار المزيد من “المفاوضات” والوساطات.
ماكرون في المقابلة: حان الوقت لوقف إطلاق النار في غزة، بي بي سي، 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، (تاريخ الدخول: 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2023(
https://www.bbc.com/arabic/articles/cljp4dn0k83o
4) أقر وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، نفسه بالأمر، في 14 نوفمبر/تشرين الثاني، بحسب CNN، التي ذكرت أنه وجَّه كتابًا إلى العاملين في الخارجية لتبرير بعض مواقفه. كما ذكرت الصحف الفرنسية وجود خلافات واعتراضات من دبلوماسيين على مواقف وتصريحات ماكرون، ووقَّع سفراء سابقون نافذون نصًّا مشتركًا يندد بالانحياز الكبير لإسرائيل تناولت مضمونه صحيفة لو فيغارو، في 13 نوفمبر/تشرين الثاني.
هل هناك خلافات في الإدارة الأميركية بشأن التعامل مع صراع إسرائيل وحماس؟ بلينكن يعترف، سي إن إن عربي، 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، (تاريخ الدخول: 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2023)،
https://arabic.cnn.com/middle-east/article/2023/11/14/blinken-admits-di…
يُقدر عدد المسلمين في فرنسا بحوالي 6 ملايين، في حين يُقدر عدد اليهود الفرنسيين بحوالي 600 ألف.
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات