رائد وحش
لا نعرف في تاريخ الخطاب العربي حول القضية الفلسطينية رؤى وتصورات وحشية بحق المدنيين على مثال ما نراه ونسمعه لدى الجانب الآخر، سواء الاستعمار الأوروبي التاريخي، أو الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي الذي لا يزال قائمًا في بلادنا.
صحيح أن فترات عصيبة كالتي نشهدها حاليًا تجعل الناس يكتبون كلامًا عنيفًا في تعليقاتهم تحت فيديوهات المجازر وصورها، وتحت أخبار الاقتحامات والاعتقالات والتعذيب، لكننا نفهم أن ذلك يأتي في سياق أن هؤلاء يمثلون المعتدى عليهم، فهم شعب من يُقتلون تحت أنقاض منازلهم، ومن تقصفهم المدفعية في أماكن الإيواء، ومن حقهم التعبير عن مشاعرهم بهذه الطريقة، لأننا نعرف أن ذلك يزول بزوال الحدث الدموي. لكنّ الجنوني أن المعتدين لا يكتفون بكتابة تعليقات مشابهة تحت أخبار وصور وفيديوهات مجازرنا، بل تصل بهم الوقاحة إلى حدود تأليف الأغاني وتصميم الرقصات، وشتم المقدسات الإسلامية، والحديث عن نكبة ثانية وإبادة وتهجير، وإقامة محرقة فلسطينية، كما لو أنهم يتحدثون عن شؤون عادية. ولا يقتصر ذلك على فترات الحرب، بل يواصل حضوره في فترات السلم المؤقتة، أو الطويلة.
كما أننا لا نعرف مجازر عربية بحقّ إسرائيل، ذهب ضحيتها أطفال ونساء ومسنون مثلما نعرف مجازر عديدة ارتكبها جيشها ومستوطنوها، ومرتزقوها أيضًا، بحق المدنيين الأبرياء في الأرض المحتلة، أو في الدول العربية.
استطاع الخطاب العربي حول القضية أن يصنع مثالًا أخلاقيًا دون أن تكون هناك نية مسبقة لذلك، أو تنسيق بين أقطابه وممثليه، بل هو أمر أقرب للعفوية حيث تحضر الأخلاق من عدة عوامل، من الديني والاجتماعي، ومن التجربة السياسية الفلسطينية التي نجحت في جعل العدو مرتبطًا بكل ما يتعلق بالإطار الاستعماري.
والأمر الغريب فعلًا أنّ ذلك لم يكن في يوم محل تأمل وتفكير من قبل مؤرخي القضية الفلسطينية.
في أراشيف الأغاني العربية، ومن ضمنها الفلسطينية، التي تناولت القضية تدور الكلمات غالبًا حول الظلم والحرية، وهو ما يجعل من هذا الخطاب منتميًا إلى تراث حركات التحرر الوطنية العالمية التي لا تخلو من النظرة العنصرية وحسب، إنما تنطلق أساسًا لتكون في مواجهة مع هذه النظرة التي تؤسس لكل الوحشية التي يرتكبها الآخر بحقنا.
كما تسعى نصوص تلك الأغاني لتكون حوارًا مع ضمير العالم، أو نداءً له، في حين يكتسب المستعمِرون كل الصفات البربرية، إذ يسبغون على أفعالهم وأقوالهم الوحشية والعنصرية، فنراهم يملؤون كتبهم وأغانيهم وأفلامهم ولوحاتهم، مثلما يملؤون خطب قادتهم، بالحديث عن الإبادة والتهجير لأجل التخلص من الوباء البشري الذي يمثله السكان الأصليون.
هذه نقطة لصالح الشعوب وليست بالمستبعدة إطلاقًا، فالشاعر إيميه سيزير توقف مرةً عند فكرة طرحها المستعمرون حول سذاجة السكان الأصليين الذين يستقبلون الغزاة كالضيوف، وكان رأي سيزير أنهم لم، ولن، يفهموا الكرم العميق في الثقافات الأصلية.
لا نقول إنه لا توجد خطابات خارج المألوف، بل هي موجودة بلا شكّ، لكن الفارق الأساسي أنها ليست ذات انتشار كبير، ولا تحتل مكانة متقدمة في تيار التفكير المركزي في القضية، فليس لدينا تصريحات علنية لإفناء العدو بقنبلة نووية، ولا يوجد عندنا أغان شائعة تعتمد تسفيه أنبياء اليهود، أو خطب حماسية تساوي الطفل بالجندي، والمدني بالعسكري.
عرفنا المجازر والطرد ونكران الحقوق لكننا لم نسمح لكل ذلك بأن يُفقدنا إنسانيتنا.
وحتى الشر الذي جلبوه لا يزال طارئًا على عالمنا. وسيزول لا محالة مع زوال البنية الاستعمارية بجيشها وسلاحها الفتاك ومتطرفيها، الذين بدلًا من أن يكونوا في السجون صاروا قادة للرأي!
عُرف عن الناشط الإيطالي فيتوريو أريغوني، الذي اختار أن يكون غزيًا، ومات في غزة كما يفعل أهلها، أنه كان يُوقع مقالاته بعبارة “حافظوا على إنسانيتكم”، وفي الحقيقة لم نفعل سوى ذلك.
المصدر: صوت الترا