معقل زهور عدي
هناك اليوم جدل لدى الجيل الجديد حول إعادة تقييم مرحلة الانتداب الفرنسي، وفي ضوء الوحشية التي أفلتت من عقالها خلال السنوات الماضية بدأ بعض الشباب يميل لفكرة أن عهد الانتداب الفرنسي لم يكن بالسوء الذي تم تقديمه في الثقافة الرسمية السابقة، وأنه كان محكوما بالعقلية الفرنسية المشبعة بالعقلانية الأوربية، في حين شهدنا في السنوات الماضية انفلاتا لنزعات لا علاقة لها بالعقلانية بل بالإنسانية في أبسط مفاهيمها.
ويدعم ذلك التوجه ميل للتمرد على الثقافة الرسمية السابقة والتي لم تقتصر على أجهزة التعليم الحكومية بل تعدتها لتصبح ثقافة سائدة ترتبط بمفاهيم ايديولوجية أكثر من ارتباطها بالمنهجية العلمية في البحث التاريخي لكن المشكلة أن الجيل الجديد كثيرا ما ينحاز أيضا بطريقة متسرعة نحو الأفكار المعاكسة دون روية أو دراسة أو الاستناد للوقائع التاريخية وهكذا يتم إضفاء صورة رومانسية لاتمت للحقيقة بصلة على عهد الانتداب الفرنسي , بل يصبح العهد الذي نهض بسورية , وعلمها الديمقراطية , ونقلها للحداثة , فضلا عن انجازات كبرى في التنظيم والادارة والمشاريع المدنية .
ومن أجل عودة أكثر موضوعية لتلك المرحلة وتأسيس نظرة تقوم على أساس الوقائع وليس الهوى أو الرغبات التي تأرجحت من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين أقدم هذا البحث كمساهمة متواضعة على هذا الطريق. وسوف أنشره على حلقات كيلا أثقل على القارئ , وقد سبق تقديمه في ندوة لمجموعة ” ندوة وطن ” لكني ربما أزيد عليه أو أنقص وفقا لما أجد مناسبا غير متقيد بما سبق أن قدمت .
كما لن أعمد للاستنتاج سوى في النهاية، والبحث بعنوان ” قراءة في كتاب إدمون رباط: تطور سورية السياسي في ظل الانتداب الفرنسي “
أخيرا فإن من المهم للغاية ملاحظة أنني أسرد هنا آراء إدمون رباط وليس رأيي وفي حال أنني وجدت ضروريا بيان رأيي الخاص فسوف أذكر ذلك بوضوح.
قراءة في كتاب إدمون رباط ” تطور سورية السياسي في ظل الانتداب الفرنسي “
مقدمة : هذا الكتاب على أهميته الفائقة كتب في عام 1928 بالتالي فالحيز الزمني له لايتعدى ذلك التاريخ , وبالطبع فهناك تغيرات سياسية هامة حدثت في الأعوام التالية من الانتداب , لكن أهمية الكتاب التي لن تمس بها التطورات اللاحقة تكمن في التحليل المعمق والدقيق لمفهوم الإنتداب ومرجعياته الحقوقية , وكيف فسرت فرنسا وطبقت عمليا مفهوم الإنتداب خاصة في السنوات الخمس الأولى من العام 1920 وحتى العام 1925 حين أحدثت الثورة السورية الكبرى حدا فاصلا بين مرحلتين فأجبرت فرنسا على إعادة النظر بممارساتها السياسية كما رسمت بداية مرحلة سادت فيها النضالات السياسية المدنية حتى تحقق الجلاء في 1946.
وضع الكتاب باللغة الفرنسية كأطروحة دراسية لإدمون رباط الذي درس الحقوق في جامعة السوربون بباريس وترجمه الصحفي المترجم سليمان رياشي ونشره المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عام 2020 .
التعريف بالمؤلف :
إدمون رباط مفكر وباحث في التاريخ والحقوق والسياسة عميق الإنتماء للعروبة الحضارية ولد في حلب عام 1904 وتوفي عام 1991 , درس الحقوق والآداب في جامعة السوربون بباريس , انتخب كنائب في البرلمان السوري بين 1936 – 1939 وكان عضوا في الوفد الذي ذهب لباريس وتوصل مع الفرنسيين لمعاهدة 1936 الشهيرة , استقر في لبنان وعمل مستشارا للبرلمان اللبناني , له العديد من الكتب في مسائل التاريخ والحقوق والسياسة , يمتاز كتابه موضوع هذه الورقة بالدقة والعمق والمنهج العلمي وغنى المراجع خاصة الأجنبية , وساعده في ذلك اطلاعه على الأرشيف الفرنسي المرتبط بسورية , قدم له المفكر والكاتب المعروف شكيب أرسلان بالقول : ” هذا الكتاب هو الأكمل والأكثر نزاهة من بين ماقرأت عن بلدنا , يجمع الشاب السيد رباط بين الموسوعية التي تليق بجرماني ومنطق المتوسطي الكامل وفطنته ” .
فرنسا وسورية :
ربما ليس حاضرا في الأذهان اليوم أن كلمة سورية في دلالتها الجغرافية والتاريخية والثقافية في الغرب خاصة فرنسا لم تكن تعني سورية الحالية وإنما سورية التاريخية التي تضم لبنان وفلسطين وانطاكية وكيليكية والاردن , وعندما يحضر اسم سورية لدى النخب السياسية والثقافية الفرنسية في مطلع القرن العشرين وقبل الحرب العالمية الأولى فهو يحمل معه شحنة لاتوصف من العاطفة فسورية هي بلد السيد المسيح والأماكن المقدسة التي حارب من أجلها الفرنسيون قرابة المئتي عام في العصور الوسطى واستوطنوا هناك وبنوا الحصون والكنائس واختلطوا بأهلها حين كانوا هم الأقل حضارة ورقيا , وهناك المسيحيون السوريون الذين يعتقدون أن عليهم حمايتهم , سورية التي تضم أصدقاء لفرنسا محبين ومخلصين يمكن أن يحيطوا وجودها بكل الود والدعم والحديث هنا عن لبنان السوري .
وسورية الحلم باستعادة ما فقده الغرب وفرنسا في تلك الشواطىء المشرقية مثلما يحلم العربي باستعادة الأندلس ذات يوم .
لذا فمع تلك الصورة المحملة بشحنة دينية وتاريخية تغذيها النزعة الامبراطورية الاستعمارية الفرنسية لم يكن أحد يتصور في فرنسا بعد أن خرجت منتصرة من الحرب العالمية الأولى أن لا تكون سورية من حصة فرنسا . يقول ستيفن هامسلي لونغريغ في كتابه ” تاريخ سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي صفحة 177 : ” وفي فرنسا كان أغلب الرأي العام المحافظ في الكنيسة والجيش والأوساط المهتمة بالاستراتيجية والتجارة وبرسالة فرنسا ونفوذها التقليديين يؤيد الانتداب تأييدا تاما …وكان أغلب الجمهور الفرنسي يشعر بالأسف لأن سورية لم تكن محمية “.
قراءتي هذه ستكون انتقائية لبعض العناوين الرئيسية في الكتاب:
أولا: النظام الطائفي الاجتماعي في سورية والشعور الوطني عشية انحلال الدولة العثمانية.
ثانيا: مفهوم الانتداب ومصدره ومرجعياته القانونية.
ثالثا: كيف فسرت فرنسا الانتداب وطبقته في الواقع بين 1920 – 1928.
رابعا: الانتداب الفرنسي واستيلاد الدول بين 1920 – 1928.
المصدر: صفحة معقل زهور عدي