د. طلال المصطفى
لا شكّ في أنّ رحيل الدكتور يوسف سلامة قد تركَ شيئًا من الحزن في قلب كلّ من عرفه، من زملاء وباحثين وطلاب وقرّاء؛ ذلك بأنه -كما يشهد كلّ من عرفه وتعامل معه- كان ودودًا في الصحبة، لطيفًا في المعاملة، مخلصًا في العمل، مؤمنًا بقدرة العلم والثقافة والتفكير على تخليص المجتمع الإنساني من آفات الاستبداد والفساد، ومؤمنًا بأن المستقبلَ للقيم الإنسانية. وحامل هذه الأمور جديرٌ بأن يُحزن على رحيله.
لم أكن طالبًا لدى الدكتور يوسف سلامة، ولكنّي بعد قراءة ما كتبه عنه من كانوا طلابًا عنده في جامعة دمشق، وقد أصبحوا في الوقت الحاضر أساتذة في الجامعات السورية وغيرها بعد وفاته؛ صرتُ أغبط من تتلمذ على يديه، وتمنّيت لو أني كنت طالبًا عنده في قسم الفلسفة، ليكون لي حظّ في نهل العِلم والمعرفة والقيم من ذلك النبع النقيّ، منذ ذلك الزمن.
بعد وفاته، عادت بي الذاكرة إلى الثمانينيات، أيّام كنت طالبًا في قسم مشترك للفلسفة وعلم الاجتماع، وفي السنة الثانية كان على الطالب الاختيار بين الفلسفة وعلم الاجتماع، وحينها انتقلت بعد تردد إلى تخصص علم الاجتماع، وهكذا ابتعدت عن الفلسفة وعن أساتذتها المميزين، ومنهم يوسف سلامة، وفيما بعد حصلت على الدكتوراه، وعُيّنت أستاذًا في قسم علم الاجتماع، حيث أصبح القسم مستقلًا عن قسم الفلسفة إداريًا، ولكن بحكم عدم إمكانية الفصل المعرفي بين الفلسفة وعلم الاجتماع، استمرّت العلاقة بين القسمين، وكنت ألتقي مع معظم أساتذة الفلسفة، ولكن للقاء مع يوسف سلامة وأحمد برقاوي نكهة فلسفية خاصة، ثم لم يعد اللقاء بهم في مكاتب قسم الفلسفة وعلم الاجتماع سهلًا ويسيرًا، بعد الثورة 2011، حيث إن الإشارة إلى أي لقاء بهم تعني اجتماعًا للمعارضة، من منظور الأساتذة والطلبة المحسوبين على أجهزة الأمن لدى النظام السوري. وهنا أذكر بعض المواقف والحوادث التي ما زلت أتذكرها حتى الآن، الأول كان في مكتبي الجامعي، حيث قدم الدكتور سلامة في أحد الأيام إلى مكتبي في قسم علم الاجتماع، وكان العديد من الأساتذة حاضرين، وبدؤوا بالانسحاب واحدًا تلو الآخر، ودون أن أنتبه إلى خلوّ المكتب، وجدت سلامة يدسّ في حقيبتي أوراقا قائلًا: “ما دام كافة السفلة خرجوا من المكتب، أرجو أن تطّلع على هذه الأوراق في البيت، وتخبرني عن رأيك فيها”، وبالفعل، لم أخرجها إلا في البيت، فوجدت الأعداد الأولى من الجريدة الورقية (عنب بلدي).
والموقف الثاني حدث أيضًا بعد 2011، حيث اتصل بي إلى البيت معلنًا تضامنه الشخصي والعلمي معي، وأعطاني بعض النصائح في كيفية التعامل مع بعض الطلاب والأساتذة الأمنيين، بعد أن تعرّضت لاتهام علني بالطائفية ولتهديدات أمنية علنية من قبل أحد الأساتذة المحسوبين على الأجهزة الأمنية، بعد مناقشة علنية لرسالة ماستر لأحد طلاب قسم علم الاجتماع المحسوب أيضًا على دوائر الأمن والفساد، حيث أبرزتُ يومها بالأدلة الملموسة تعفيش الطالب لنصف الرسالة، من طالب ماستر سعودي، وكان الطالب السعودي قد سبقه وعفش الفصلين من رسالة طالب أجنبي، حينها وقف هذا الأستاذ الفاسد والأمني ليقول إن “المناقشة غير موضوعية”، وأنها تمت على “خلفية طائفية”، كون الطالب (علويًا) .
والموقف الثالث عندما قررَ الدكتور سلامة مغادرة جامعة دمشق إلى الخارج، وأذكر أنه في الصباح كان قد أحضر معظم كتبه الشخصية من مكتبته المنزلية إلى مكتبة الكلية، ودون أن أسأله، قال لي: “طلال، يجب أن نفصل بين الجامعة كمؤسسة أكاديمية والنظام، ويجب علينا قدر الإمكان أن نحافظ عليها ونساعد طلابها، وهذه وصيتي لك إذا استطعت الاستمرار في الجامعة، أو إذا لم يوقفوك عن التدريس”.
لم تطل فترة عملي في جامعة دمشق بعده، فغادرت جامعة دمشق إلى إسطنبول بعد صدور مذكرة باعتقالي، وبعد وصولي إلى بيت الدكتور حسام السعد، الشريك في الصداقة مع الدكتور سلامة في الجامعة وفي الزيارات إلى منزله الكائن في اليرموك، كان يوسف سلامة أول من تواصل معي، وأخبرني عن مجلة (قلمون) كمشروع وطني وأكاديمي تعمل على بلورة الجماعة العلمية السورية، والعمل على ممارسة الحرية الأكاديمية في الكتابة التي افتقدناها في الجامعات السورية، وهكذا كانت بداية الانتقال من علاقة الزمالة والصداقة في جامعة دمشق، إلى التواصل المهني البحثي في ما يخص تحكيم بعض الدراسات والكتب، وكذلك المشاركة في الكتابة في بعض ملفات قلمون.
لم أكن جديدًا في مجال التحكيم في المجلات العلمية المحكمة، فإضافة إلى مجلات الجامعات السورية كنت محكّمًا للأبحاث التي تصلني من المجلات المحكمة من الجامعات العربية (الأردن، العراق، الإمارات العربية وغيرها) ومنها التطوعي والمأجور، ولم أشعر يومًا بالاستياء من التحكيم التطوعي، فقد كنت أجد الفائدة المعرفية في قراءة وتقييم الأبحاث الاكاديمية في الحقل السوسيولوجي، بالإضافة إلى كون معظم المجلات العلمية في الغالب هي مجلات غير ربحية، تنضوي عادة تحت مظلة جامعة أو مؤسسة أكاديمية أو بحثية.
بدأت العلاقة المهنية البحثية مع الدكتور يوسف في تحكيم بعض الأبحاث التي تقع في الحقل السوسيولوجي، وكنت قد اعتدت معايير التحكيم الأكاديمي المتعارف عليها في المجلات المحكمة، وقد اعتمدت الآلية نفسها في البدايات، ولكن تبين لي أن لدى الدكتور سلامة، كرئيس تحرير لقلمون، معايير مختلفة إلى حد ما، حيث تتضمن الإشراف العلمي والتحكيم من قبله كرئيس تحرير للمجلة، ومن قبل المحكمين الذين يمون عليهم بحكم الصداقة، استنادًا إلى فلسفة تقول إن هذا النظام الاستبدادي صحّر المؤسسات الأكاديمية من الكتّاب والباحثين السوريين، وأن على عاتق مجلة قلمون وفريقها، من هيئة تحرير وكتّاب ومحكمين، العمل على مشروع وطني أكاديمي يعمل على بلورة الجماعة البحثية الأكاديمية السورية والأخذ بأيديهم ومساعدتهم في إنجاز البحوث والدراسات التخصصية في العلوم الاجتماعية والإنسانية. وبالفعل، استحسنتُ هذا التوجّه، خاصة أن لدي خبرة في الإشراف العلمي في جامعة دمشق على أطروحات الماستر والدكتوراه، فكان الدكتور يوسف يرسل إلي البحث للقيام بتحكيمه بمهنية علمية، بدون ذكر اسم الباحث/ة، وكان يتصل هاتفيًا بعد يومين أو ثلاث ليستعجل القراءة والتقييم، ويدخل معي في نقاش أكاديمي حول البحث، في حال كنت قد قرأته وكتبت التقرير العلمي، وفيما بعد أصبحت أنا المبادر، حيث أقوم بترك أي عمل أقوم به لأقرأ البحث، وكنت قبل كتابة التقرير العلمي أتصل به لمناقشة مضمون البحث وإمكانية نشره في قلمون، وعندما أقول له إن البحث فيه إضافة معرفية ويمكن نشره، فيرد علي مباشرة، وهل بالإمكان إضافة بعض الملاحظات التوجيهية للارتقاء بالبحث أكثر، وخاصة في الجانب المنهجي كونه لديك المعرفة الجيدة بالجوانب المنهجية أكثر، وأذكر أني كنت، في أكثر من بحث، أتصل به وأقول له إن هذا البحث بمرتبة الوسط علميًا، بصراحة، يمكن رفضه. وإذا كانت الأبحاث الواردة إلى المجلة قليلة جدًا، فإن من الممكن تطويره إلى الأفضل، وكان جوابه المباشر: اكتب له ملاحظاتك على صيغة توجيهات، بحيث يرتقي إلى مرتبة الجيد. وأحيانًا ألحظ سعادته من الاتصال الهاتفي، عندما يجد الباحث قد طور بحثه إلى الأفضل.
باختصار: كان للدكتور سلامة أدوار مركبة في المجلة، فهو مشرف علمي على الباحثين في المجلة، بالإضافة إلى دور رئيس التحرير، وأكاد أجزم أنه رئيس التحرير الوحيد الذي يتصل بالباحث أكثر مرة لمناقشة البحث، وكذلك الاتصال بالمحكّم ومناقشته في التقييم وإمكانية الارتقاء بالبحث، وقد قرأت أبحاثًا عديدة لكتاب جدد، لم يسبق لهم النشر في أي مجلة أكاديمية محكمة مسبقًا.
هذا عن التحكيم، أما عن المشاركة في الكتابة، فإن العلاقة هنا تختلف، حيث تنتقل إلى علاقة رئيس التحرير بالباحث، بداية تكون هذه العلاقة بالاتصال معي ليطلب مني التواصل مع بعض الزملاء والأصدقاء وحثهم على المشاركة في ملف العدد القادم، وكنت أرشح له بعض الأسماء، ويقول لي أنا من سيتواصل معهم، أنا أريد منك شيئًا أهم من ذلك، وهو أن تشارك في هذا العدد، وبعد تمنّع بسبب ضيق الوقت، أجد نفسي قد استسلمت بكل ود لطلبه بالمشاركة، وهنا أشعر بسعادة واضحة من حديثة، وكأنه حقق إنجازًا، ولا ينهي اتصاله بعد الموافقة، بل يطلب مني تحديد المحور والعنوان الأولي، فأجيبه بأني خلال يومين أرسل لك، فيضحك ويقول: فلنتناقش معًا حول أي محور وعنوان يناسبك. ونبدأ النقاش ولا تنتهي المكالمة إلا وقد تحدد موضوع البحث، أشكره فيجيب الشكر لك أنت من توصلت إلى تحديد موضوع البحث. ثم بعد أيام قليلة يتواصل معي، ويسألني إن كنت بدأت بالبحث أم لا، ويكون الاتصال فرصة أخرى للنقاش، وأحيانًا تظهر مقترحات بحثية أخرى. وحين كنت أرسل إليه المسودة الأولى، كان يخبرني أن معايير المجلة بالتحكيم من قبل اثنين تنطبق على الجميع، حتى المحكّمين أمثالك، وكان جوابي الدائم مع الموافقة، وأخبره بأن هذا الأمر حسن ومفيد لي، والباحث الحقيقي هو من يتعلّم دائمًا من أساتذته وطلابه، فيجيبني أنت زميل وصديق وأستاذ بالنسبة إلي.
وبعد أسبوع أو أكثر، يتواصل معي هاتفيًا، ليناقشني بالبحث دون أن يرسل لي آراء المحكمين، فكان يطلب مني فتح ملف البحث، ويطلب مني قراءة الفقرة رقم كذا أو السطر كذا، وليقول لي هناك فكرة ثانية ما رأيك بها، أحيانًا كنت أستحسن البديل، وأحيانا أرفضه، وكان في كلتا الحالتين يستحن موقفي. وقبل النشر، يرسل لي النسخة الأخيرة والجاهزة للنشر، ليخبرني بعدد الأيام التي يمكن فيها تعديل أي فكرة بالبحث، في حال وجود رغبة في التعديل.
هكذا، أسس ومارس الدكتور سلامة المشروع الوطني والأكاديمي البحثي لمجلة قلمون، بالحرية الأكاديمية السليمة من خلال دوره المركب، كرئيس تحرير ومشرف علمي ومتابع بالتفاصيل لسير الأبحاث والباحثين في مجلة قلمون يوميًا.
أخيرًا.. أقول ليس بالإمكان الوفاء بحق الدكتور سلامة، إلا إكمال مشروعه الفكري والبحثي العلمي الذي بدأه ورسخه في مجلة قلمون وجامعة دمشق
المصدر: موقع تلفزيون سوريا