حسن النيفي
فيما يتأهّب السوريون للاحتفاء بالذكرى الثالثة عشرة لانطلاقة ثورتهم العظيمة، فإن ثمة أسئلة مفصلية تطرح ذاتها بقوّة، لعلّ أبرزها سؤالان: يطال الأول الجانب الميداني، وتحديداً قوى وحكومات الأمر الواقع الثلاث التي تسيطر على الحيّز الجغرافي الخارج عن سيطرة نظام دمشق، (حكومة الائتلاف والجيش الوطني – حكومة الإنقاذ التابعة لأبي محمد الجولاني – حكومة قسد التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي)، فهل باتت هذه القوى أو الحكومات عبئاً مركّباً على ثورة السوريين؟ وما الفارق في التوجّه والسلوك معاً بين تلك القوى وبين حكومة الأسد في دمشق؟
يمكن التأكيد على أن سلطات الأمر الواقع الأربع التي تسيطر – وكالةً او أصالةً -على الجغرافيا السورية هي مختلفة عن بعضها البعض من حيث تكوينها الإيديولوجي ومنحاها السياسي، إلّا أن ثمة ما يجمع بينها أيضاً، أعني بذلك مجافاتها مجتمعةً لإرادة السوريين وتطلعاتهم، فهي جميعها فُرضتْ عليهم فرضاً ولم يكن للسوريين أيّ دور في اختيارها، ثم إنها جميعها أيضاً تمارس على مواطنيها ممارساتٍ تكاد تتطابق من حيث الإكراه والإقصاء وانتشار الفساد وتسيّد الحرمان وإسكات المواطن وترويعه وإذلاله، ولعل الأهم من ذلك أيضاً هو انها جميعها – من حيث بنيتها الإيديولوجية وممارساتها – تناهض مشروع التغيير الوطني كما جسّدته الثورة السورية إبّان انطلاقتها. وعلى ضوء ذلك يمكن طرح السؤال التالي: هل تكمن خطورة تلك السلطات في كونها باتت كابحةً او معيقة لمشروع التغيير الوطني الديمقراطي في سوريا فقط، أم أنها تسعى إلى أبعد من ذلك، أعني أنها تعمل على تكريس تقسيم البلاد السورية وتحويله من حالة طارئة فرضتها ظروف الحرب والتدخل الدولي إلى حالة دائمة تستمد شرعيتها من الإرادات الدولية الخارجية أولًا ومن المصالح الشخصية للقائمين على تلك السلطات ثانياً؟
لقد قدّمت كل سلطة من تلك السلطات جواباً كافياً على سؤالنا السالف، ليس من خلال خطابات إعلامية أو مواقف سياسية صادرة من تلك السلطات، بل من خلال مشاريعها التي تعتمدها كمقوّمات لوجودها واستمرار بقائها، ولعل نظام الأسد كان سبّاقاً في الإجابة حين أفصح منذ العام 2012 عن الخطة (ب) التي تتضمن مشروع (سورية المفيدة)، تلك الخطة التي تؤكّد استعداد نظام دمشق التخلي عن ثلثي البلاد والاحتفاظ بثلث ضامن لاستمرار سلطته. أمّا سلطات قسد التي تسيطر على الشطر الشرقي من سورية فربما كانت الأبلغ وضوحاً في التعبير عن مشروعها المتمثل ب ( روج آفا ) أي دولة غرب كردستان، وقد سعت، بعد سيطرتها على مدينة منبج، إلى السيطرة على المناطق الواقعة بين عين العرب وعفرين، إلّا أن هذا المسعى اصطدم بمقاومة الحكومة التركية التي أوقفت هذا التمدّد، باعتباره يجسّد تهديداً لأمنها القومي. أمّا حكومتا الإنقاذ التابعة للجولاني والحكومة المؤقتة المنبثقة عن الائتلاف والجيش الوطني، فهما مشروعان راهنان يخضعان للإرادة التركية، وكلتا الحكومتين لا تملك قراراً سيادياً أو ذاتياً وإنما تمارسان سلطتيهما من خلال التنسيق مع الحكومة التركية التي تعتبرهما ورقتين هامتين في تفاهماتها مع روسيا، وبالتالي فلعل مصير تلك الحكومتين يرتبط إلى حدّ كبير بمصير التفاهمات والمصالح المشتركة بين أنقرة وموسكو.
أمّا السؤال المصيري الثاني فيتمحور حول ماهية الجدوى الكامنة في القرار الأممي (2254) الصادر عام 2015، والذي ما فتىء السوريون يطالبون بتنفيذه باعتباره الضامن لتحقيق عملية الانتقال السياسي كما نصت عليها المرجعيات الأممية.
القرار السالف الذكر يحيل في مضامينه إلى تشكيل حكومة توافقية مشتركة من النظام والمعارضة تتمتع بصلاحيات كاملة، دون إشارة إلى وجود الأسد أو عدمه، كما يحيل إلى عملية لاحقة تتمثل بكتابة دستور ومن ثم انتخابات بإشراف أممي. ولعل السؤال المطروح: هل باتت مقوّمات تنفيذ مضامين القرار المذكور قائمة؟
قبل الحديث عن رفض نظام الأسد لمضامين القرار وعدم انصياعه للإرادة الدولية، وكذلك قبل الحديث عن سعي روسيا للالتفاف على القرارات الأممية جميعها من خلال فرض مسار أستانا، وتمكينها نظام الأسد من هزيمة الفصائل العسكرية واستعادته لمعظم المناطق والمدن التي كانت خارج سيطرته، أقول قبل الحديث عن هذا كله، ينبغي التأكيد على ان المعارضة الرسمية السورية هي من أول الموافقين على تجاوز مضامين القرارات الأممية ذات الصلة بالقضية السورية، ليس القرار (2254 ) فحسب، بل جنيف1 و 2118 ، ولئن كانت جميع القرارات المذكورة تؤكّد على ان جوهر العملية السياسية تبدأ بإنشاء هيئة حكم انتقالي، فإن المعارضة السورية الممثلة بهيئة التفاوض قبلت تجاوز هذه المسألة، بدءًا من قبولها بسلال ديمستورا خلال لقاء جنيف الرابع بتاريخ 23 شباط 2017 ، ووصولاً إلى مسار اللجنة الدستورية الذي تمخّض عن لقاء سوتشي أواخر العام 2019 ، ويمكن التأكيد على أن مصير اللجنة الدستورية والفحوى المنظور من لقاءاتها المتكررة تتوقف نتائجه على المصالحة التي تسعى إليها روسيا بين دمشق وأنقرة، إذ يمكن لهذه المصالحة إن تحققت، أن تفضي إلى مصالحة بين المعارضة الرسمية ونظام الأسد، ويمكن أن يكون القرار ( 2254 ) حينئذٍ غطاءً شرعياً لهكذا مصالحة.
بالطبع إن التساؤل عن جدوى تكرار المطالبة بتنفيذ القرارات الدولية لا يعني على الإطلاق الدعوة إلى التخلّي عنها أو رفضها، بل على العكس تماماً، ولكن ما نعنيه هو ضرورة التفكير بالخروج من وهم الشعارات أولاً، وضرورة التفكير والعمل على إيجاد سبل وآليات نضالية سورية جديدة بموازاة المطالبة الدائمة بتنفيذ القرارات الدولية.
وفي موازاة المشهد القاتم للحالة الراهنة، ثمة بصيص ضوء يشرق من جنوب البلاد، ويتمثل بالحراك الشعبي الذي انطلق من مدينة السويداء في العشرين من شهر آب من العام الفائت، وبمزيد من الموضوعية يمكن التأكيد على ان هذا الحراك يكاد يتماهى مع انبثاقة الثورة في آذار 2011 من حيث المطالب والتوجهات والأهداف، إلّا ان هذا الحراك، كحركة شعبية تتماهى مع مشروع الثورة في التغيير، يجابه في الوقت الراهن تحديات كبرى، سواء من جانب نظام دمشق أو من جانب سلطات الأمر الواقع أو من جانب أطراف إقليمية تسعى لإفشاله أو احتوائه، ولا سبيل في استمراره إلّا من خلال دعمه بل والتماهي معه من جانب جميع القوى الوطنية السورية التي ما تزال تؤمن بقدرة الإرادة السورية والوعي السوري على مجابهة التحديات. هل هذه دعوة إلى عودة صفرية في سيرورة الثورة؟ ربما كذلك، ولكن أزعم أنها عودة فيها الكثير من القوة.
يتم نشر هذا الملف في ذكرى ثورة الحرية والكرامة، ثورة الشعب السوري بالتزامن في كل من موقع ملتقى العروبيين، وموقع المدار نت وموقع الحرية أولًا وموقع مصير.