أحمد مظهر سعدو
يعيد الحديث مجدّداً عن لقاءات أمنية وعسكرية بين ضباط من الحكومة التركية وعسكريين وأمنيين من نظام بشار الأسد في قاعدة (حميميم) الروسية في الساحل السوري، المسألة إلى حالة مستجدّة من التداول الجدّي مرة أخرى، خصوصاً بعدما قيل عن خطوات أخرى جارية على قدم وساق، عبر الوساطة العراقية من أجل إعادة وصل ما انقطع سابقًا عندما حاولت الدولة الروسية فتح باب موسكو أمام هذه المسارات، قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية، لوضع أجندات للحوار المباشر في موسكو، حيث حاولت طهران في حينها وضع العصي في العجلات، وصولاً إلى فرض وجود مندوب دائم لها، يمثل إيران مباشرة، في تلك المباحثات، والتي لم تصل إلى نتيجة مرجوّة، وسط أقوال عديدة تفيد بأن من ساهم في إعاقة مسيرتها ليس النظام السوري المتهالك، بل الحكومة الإيرانية التي وجدت مصلحة لها في إيقاف تلك المفاوضات.
هل ستنجح اليوم من جديد مسيرة التطبيع بين تركيا ونظام بشّار الأسد، وهي التي فشلت وقتها، وهل تغيّرت الظروف الموضوعية أو الذاتية، التي حالت دون نجاحها في تلك المرحلة؟ وما هي مصائر المعارضة السورية فيما لو تقدّمت المسارات بشكل متسارع أكثر، وتحقق اللقاء المرتقب بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره السوري بشار الأسد؟
تساؤلات كثيرة تفترض ضرورة الإجابة عنها وأهميتها، ضمن منطق تحليل استشراف آليات العلاقة المستقبلية بين الطرفين، ضمن متغيّرات المنطقة وما بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، واحتمالات التداعيات المباشرة على جل المنطقة العربية والإقليمية والدولية سلباً أو إيجاباً، حيث ما زالت إيران ماضية ومتحكّمة في جملة السياسات التكتيكية والاستراتيجية للنظام السوري، وما زالت روسيا، هي الأخرى، رغم انشغالها في حربها على أوكرانيا تساهم في تسيير الوضع السوري الرسمي، والتغوّل عليه أمنيّاً وعسكريّاً مع بعض المنافسات والمناكدات البينية بينها وبين إيران، ومشروعها الكبير في المنطقة، حيث لا تتوافق روسيا جزئيّاً مع مآلاته، حتى لو تفاهمت مع إيران عبر كثير من حيثياته. يضاف إلى ذلك أن نظام الأسد ما انفكّ يراوح في المكان، ويعيد إنتاج نفسه، من خلال سياسات الخراب البنيوي، ومسارات الدولة الفاشلة، وتسهيل وصم “سورية بشار الأسد” بكليتها بجمهورية الكبتاغون، ومن ثم مكافأة نظامها الأسدي من الرئيس الأميركي، جو بايدن، بإعاقته التوقيع على قانون منع التطبيع مع نظام الأسد، بالنظر إلى موقف بشّار الأسد ونظامه المرضي عنه مما يجري في قطاع غزّة، وذاك “الصمت الاستراتيجي” المطبق، واضح المعالم، حيث يصمت النظام على العدوان الإسرائيلي ليس في غزّة فقط، بل أيضاً هو يتفرّج على كل عمليات القصف التي يتلقّاها في جل الجغرافيا السورية، من الطيران والصواريخ الإسرائيلية، ويستمرّ في ذلك محتفظاً بحقّ الرد إلى ما لا نهاية.
هذا هو حال النظام السوري الذي ما يزال غير قادر، بل لا يريد عودة اللاجئين السوريين الطوعية من تركيا أو من لبنان أو سواهما، وهو الذي ليس قادراً على إعالة السوريين أو تهيئة معيشة اقتصادية معقولة، لمن هم داخل سورية، فكيف إن عاد بضعة ملايين من المهجَّرين قسراً، في وقتٍ ما تزال فيه الليرة السورية في حالة هبوط غير مسبوق، والخزينة السورية تكاد تصبح صفراً، وأوضاعه الاقتصادية السورية برمّتها جد سيئة، وهناك من أمل قريب في أي تغييرات جدّية وحقيقية، كما أن النظام السوري ما يزال عاجزاً عن تلبية متطلبات التطبيع ومحدّداته مع الدول العربية، وخصوصاً دول الخليج، وهو الذي سبق ووعدهم بالكثير، من دون تنفيذ أيٍ من وعوده الوهمية.
أما تركيا فهي أيضاً تحتاج إلى التطبيع السريع مع نظام بشّار الأسد تحقيقاً وتلبية لعدة أمور، لا يبدو أن النظام السوري بات قادراً على تنفيذها، وأولها إعادة طوعية لما يزيد عن ثلاثة ملايين من اللاجئين السوريين، داخل تركيا، أمام ضغط متواصل من المعارضة التركية، لتحقيق ذلك، ومنازلة الحكومة التركية وإحراجها، ضمن هذه المساحة والخاصرة التي تعتبر جد ضعيفة لدى الحكومة، مع استمرار اتّساع نطاق ظاهرة العنصرية ضد السوريين في تركيا، وهو ما أدّى سابقاً إلى تراجعات انتخابية كبرى، وخسارات نسبية تنبئ بما هو أخطر، سواء التي جرت في الانتخابات البرلمانية، أو بعدها في الانتخابات البلدية الأكثر كارثية بالنسبة لحزب العدالة والتنمية، حيث تتحرّك دوائر الحكومة اليوم لرتق ما جرى، ومنه بالضرورة موضوع الدفع إلى إنجاز عملية التطبيع مع النظام السوري.
والمسألة الضرورية الأخرى بالنسبة للأتراك هي الأمن القومي التركي، والذي يشكل هاجساً حقيقيّاً وقلقاً كبيراً لدى كل دوائر صنع القرار الأتراك، بوجود حزب العمال الكردستاني على مقربة من حدود تركيا الجنوبية الشرقية، مع سورية، وهو أيضاً ما لا يمكن تنفيذه من النظام السوري العاجز عن الوصول إلى تلك المناطق، لأنها ما تزال بحماية أميركية مباشرة، من القواعد الأميركية الموجودة هناك.
كما أن الهم الاقتصادي التركي ما زال ضاغطاً لإنجاز التطبيع مع النظام السوري، لفتح طريق التجارة والترانزيت نحو دول الخليج، وهو ما لا يمكن أن يحقّقه نظام الأسد، بعد أن أصبحت حكومته عاجزة عن السيطرة الكلية، على كثير من مساحات طريق الترانزيت، بعد أن فقدت الدولة هيبتها، وساد وتسيد الكثير من شبّيحة النظام والمليشيات الإيرانية وتوابعها على طرق ومفاصل مهمة كثيرة في الجغرافيا السورية.
ضمن هذه السياقات والمعطيات، هل يمكن أن تتحقق عملية التطبيع بين تركيا ونظام بشّار الأسد؟ وهل تستطيع روسيا والعراق معها أن تدفعا بهذا المسار إذا بقيت أوضاع النظام السوري على حاله، وإن بقيت إيران تعوق ذلك واقعياً، حتى لو أعلنت سوى ذلك إعلامياً؟ وكيف سيكون وضع المعارضة السورية ضمن احتمالات التطبيع هذه؟ أين سيكون موقعها؟ وهل سيؤدّي هذا التطبيع (فيما لو حصل) إلى تفتّت المعارضة وتشظّيها أكثر وأكثر؟ حيث هناك من المعارضة من سيقبل الضغوط التركية، وهناك من سيرفض. كما أن مصير إدلب وشمال حلب كيف سيكون؟ وهل يمكن حل هذه الفصائل؟ وهل سيتقبل النظام السوري عبر الحوار الذي يدعو إليه تحت ضغوط عربية ودولية، تداولاً للسلطة؟ أو حواراً جدّياً حقيقيّاً، وهو الذي طالما تعود السوريين على حواراته الأمنية والعسكرية، وليس السياسية، ومثالنا الحاضر دائماً هو مآلات اللجنة الدستورية المعطّلة، وهو نموذج ما يزال قريباً، وليس هناك من متغيّرات كبرى تدعوه إلى تغيير ما في رؤيته القسرية الأمنية، بل إنه ينتج دائماً حواراً على قدّه ومقاسه.
لعل مسألة التطبيع بين الطرفين باتت قريبة، وعلى الأبواب أكثر، ضمن الوقائع والآمال بينهما، لكن ما يرجوه كلا الجانبين منها ما زال غير قابل للتحقّق، وما زال السوريون الذين خرجوا في 15 مارس (2011) ضد النظام في ثورتهم، غير مقتنعين بإمكانية الحوار مع النظام، ولا في مصداقية أي علاقةٍ معه لا عربية، ولا إقليمية ولا حتى دولية.
المصدر: العربي الجديد