نضوب المخيلة في عصر المعلومات السائلة والأفكار المضغوطة، يحيلنا إلى معضلة الفهم الحداثوي لفكرة الحرية، ومحنة ممارستها في عالم يُعيد إنتاج تعريفها الوظيفي، دون اعتبار لشروط وجدليات التحرر الفردي والجماعي! وحدها اليوم مخيلة حيتان المال والأعمال، هي من يصنع المفهوم الحصري العام (للكائن الحر) الراضخ بكل امتثال لطوفان ثقافة العولمة، وسطوة قيمها الاستهلاكية والمادية.
قيل الكثير عن أشكال السيطرة والتحكم بالموارد والأسواق العالمية، ودور التكنولوجيا في صناعة لغة العصر الجديدة، وتبدّى على وقع تأطير العولمة بما يخدم مصالح وهيمنة القوى الكبرى، أن المساحات ضاقت أمام أية تجربة تنموية محلية، تبني مشروعها المستقل بلا قيود وإملاءات مؤسسات الإقراض الدولي. وفي الواقع يوماً بعد يوم، يكتسح اقتصاد العولمة، كنموذج كلّي كافة سبل وأنماط العيش البشري، وفق منطق احتكاره كافة أنماط الاستهلاك، وبسببه تتزايد جحافل الفقراء طردياً مع تزايد ثراء الأغنياء، فيما لا تكف منابر الفكر والبحث العلمي، عن إنتاج وصفات جاهزة تحاول تجميل أكثر من “ترميم”، هذا الاختلال الفظيع في النظام العالمي الراهن.
بصورة ملموسة أكثر، أمام هذا السيل الجارف، وهو يقتلع التنوع الثقافي والاقتصادي والاجتماعي، ويستثمر في أنظمة سياسية تطأطئُ رأسها أمام رياح العولمة، لا يبقى من فضاء للحرية بتجلياتها السياسة والحقوقية والمدنية، سوى وهم الحرية الفردية المفصلة على مقاس أصحاب المال والثروة. ملوك اللعبة يحتكرون كافة أدوات توجيه الأبصار والعقول، ويملكون حصرياً فلسفة تغيير الواقع على مؤشرات البورصة والأرباح الخيالية. ما جعلهم القوة الغليظة التي تواجه كل من يخرجون أو يتمردون، على تلك القواعد التي وضعوها. إذا فقد ولّى في فلسفتهم المعيارية تلك، منطق الثورات، وحركات التحرر، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وأيما نزوع للحرية مهما كانت أسبابه مشروعة، يعتبر في منظور سياساتهم معلقاً على شرط فاسخ، وهو ألا يؤدي لخلخلة عقيدتهم النيوليبرالية، وأن يحمي مصالحهم المستقبلية. دون ذلك يستخدمون كل أساليب المكر والنفاق للنيل من كل محاولة، تروم تغيير واقعها خارج صناديق استثماراتهم.
لا يغير من هذه الحقيقة الكاشفة عن امبريالية جشعة إلى أقصى الحدود، تلك القشرة الناعمة التي تتمثل في خطاب الحكومات الغربية عن حقوق الإنسان، والتنديد بالاستبداد ومكافحة الإرهاب، بل أنها القشرة التي تغلف أدوارهم الفعليّة في حماية المستبدين، واستخدام الإرهاب فزاعة حين اللزوم، لتمرير صفقاتهم ومصالحهم على حساب الشعوب الضعيفة. ليس موقف القوى الدولية والإقليمية النافذة، من ثورات الربيع العربي، والثورة السورية على وجه خاص، سوى ترجمة لسياسات الاستثمار في الصراعات والأزمات، دون اعتبار لقيم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية. يبقى المحرك الأساسي في علاقتهم بقضايا المنطقة، مختلفاً عما يعوّل عليه الكثيرون، حين ينتظرون سخاء الديمقراطيات الغربية، في نقل حداثتها وتجاربها إلى مجتمعاتنا.
في المقابل ثمة من يستسهل انجاز مهام التغيير الوطني وبلوغ الحرية في بلادنا، كمشروع يمكن انجازه، بنفس السياق التحرري الذي اختبرته شعوب العالم الثالث والدول النامية، في أزمنة كلاسيكية سابقة، وفي نظام دولي مضى بقواعده وتوازناته إلى غير رجعة. لا مناص في ضوء ذلك من إدراك أبعاد محنة الحرية في الواقع العربي، كقضية عالقة بين ضراوة مواجهة الاستبداد السلطوي لها بمختلف تمثلاته على الصعيد الداخلي، وإنكار أرباب النظام المعولم حق شعوبنا في التحرر الحقيقي من أنظمة الاستبداد، وخشيتهم من بناء دول مستقلة تنفض عنها قيود الهيمنة والتبعية. من سوء الأقدار تراكب عدة عوامل ذاتية وموضوعية، أدت إلى تحويل مطلب الحرية في الحالة العربية، إلى معضلة كبيرة تتجاوز سياقها المحلي، وأن تنفجر الثورات المطالبة بها، في ظل تغييرات كونية هائلة، من أبرز مظاهرها ربط الحرية الفردية بثقافة الاستهلاك والتسليع، على حساب طمس الذات الحرة في تجليّاتها الخلاقة، وتحديد خيارات الجماعات البشرية المتنوعة، بما يلائم حاجات ومصالح القوى المتحكمة بالمال والسياسة والإعلام.
ثمة ضرورة للتفكير في كيفية تظهير قضية الحرية في بلادنا، كحق ومطلب مشروعين فردياً وجماعياً، كي لا نقف إزاء محنة الحرية، فاقدي القدرة والتأثير والأمل. ما يثير الخيال للبحث عن إمكانيات تجاوز هذا الاستعصاء الواقعي بكل قسوة، ليس لعجز العقل عن اجتراح حلول تقربنا إلى الخلاص المرتجى، إنما لأن تحرير العقل من أسر التفكير النمطي في عصر تعميم روح الاستسلام، يحتاج إلى خيال ملتهب تغذيه أرواح مشبوبة للحياة، ولديها جذوة مقاومة وإصرار على حرية ناجزة، يتحقق فيها الوطن الحر بأناسه الأحرار.