ما كان محاطاً بكثير من الشكوك حول إمكانية قيام النظام، بمعركة تستهدف معاقل الثورة في حوران، اتضح أنها في غير محلها، وأن الوقائع الميدانية على الأرض، تؤكد بأن المعركة بدأت وبمشاركة جوية كثيفة من الطيران الروسي. ما يعني وبصورة لا تدع مجالاً لأي شك، أن هناك اتفاق بين (النظام وروسيا وإسرائيل) على حملة عسكرية للاستيلاء على الريف الشرقي من درعا، بما يؤدي إلى إعادة سيطرة النظام على الأوتوستراد الدولي بين دمشق ودرعا، وصولاً إلى معبر نصيب الحدودي. مثل هذا التوافق ما كان ليتم لولا الموافقة الأمريكية عليه، رغم تصريحات التهديد والوعيد التي أطلقها الأمريكان في الأسابيع الماضية، في حال قيام النظام بعمل عسكري في المنطقة الجنوبية، التي تقع ضمن مناطق خفض التصعيد.
هذه التطورات الخطيرة والمتسارعة، التي نشهدها بعد خسارة الغوطة والجنوب الدمشقي، تكشف عن المأزق الكبير الذي يواجه المدنيين والفصائل الثورية في حوران، في ظل القضم المتواصل للمناطق المحررة، إثر المساومات الدولية والإقليمية التي تبحث عن مصالح أطرافها، بالضد من حقوق ومصالح الشعب السوري، وعلى حساب تضحيات ودماء السوريين، ومعاناتهم الفظيعة على يد نظام الإجرام الأسدي وحلفائه. ما يحدث في درعا اليوم وما سينجم عنه من كارثة جديدة بحق المدنيين، في حال إصرار النظام وحلفائه على خيار البطش والقوة، يُفصح عن المأزق الكبير الذي تعيشه الثورة بمختلف مناطقها، والذي توضع فيه بين خيارين أحلاهما مر، وهما: إما المواجهة العنيفة في ظل خلل فاضح في موازين القوى، سيدفع المدنيون فاتورتها الباهظة، قتلاً ونزوحاً وتهجيراً، وإما الرضوخ لرؤية النظام وروسيا في إبرام مصالحات وتسويات، تؤدي إلى إعادة سيطرة النظام على تلك المناطق، بعد تضحيات غزيرة دفعها أهلنا الحوارنة خلال سبع سنوات من صد هجمات النظام عن قراهم ومناطقهم.
في ضوء ذلك تنحسر هوامش البحث عن خيار ثالث، طالما أن معادلة خفض التصعيد أصبحت وراء الظهر منذ بدء القصف الروسي على بلدات وقرى الريف الشرقي، وبعد الرسالة الأمريكية التي استلمتها الفصائل الثورية في (23) من الشهر الجاري، والتي تكشف بدورها عن التحلل من تقديم أية مساعدات لوجستيكية أو إنسانية من قبل الأمريكان. ما يعني صراحةً ألاّ يعول الثوار على دعمهم خلال المعركة المفروضة عليهم. بل على العكس تشي تلك الرسالة ضمناً أن خيار الرضوخ والاستسلام جرياً على سوابق عدة، هو ما يجب أن يفكر فيه قادة الفصائل تجنباً لمصير دموي ينتظرهم وأهاليهم. لم يكن الموقف الأردني الذي سارع لتشديد إجراءات إغلاق الحدود أمام النازحين، سوى تأكيداً على الموقف الأمريكي، وعلى الاستجابة لما تم التوافق عليه، بهدف تغيير قواعد اللعبة في الجنوب السوري، بما يضمن المصالح الإسرائيلية التي يشكل النظام ركيزتها الأساسية في حماية الحدود.
في مثل هذه التحديات التي واجهت الثورة، في ظل تشتت قواها وضعف إمكاناتها، دائماً كان للتوقيت في تحديد كيفية التعامل مع تلك التحديات عاملاً أساسياً، وقد أثبتت كل المحطات السابقة أن التعويل على الموقف الأمريكي، كمن يعول على جمع الماء في الغربال، وأن الرهان على أي موقف خارجي لوقف المواجهة هو تبديد للوقت المطلوب، لإعادة ترتيب أوراق الثورة وتجميع نقاط قوتها. وفي هذا الوقت الذي يتم فيه التجهيز الساخن للمعركة، لابد من استغلاله لبحث خيارات أخرى، تحرر الفصائل من فكيّ الخيارين السابقين، إذ يجب أن يكون في أولوية خطة الفصائل، كيفية تجنيب أهلنا في درعا تداعيات الحرب الوحشية عليهم، من خلال مبادرة إنقاذية عاجلة تعمل عليها الأطر السياسية بالتنسيق مع الفصائل، بما يكفل وقف المعركة ومنع تصاعدها من جهة، وبما يحول دون سيطرة النظام عليها مجدداً، وإن استلزم ذلك بعض التنازلات المتعلقة بإعادة تموضع الفصائل في المنطقة. بالطبع ليس من السهل ثني الأطراف المتوافقة على تغيير وجهتها، لكن هذا لا يمنع من المحاولة واقتناص الوقت لبذل جهود سياسية مضاعفة، تجنب حوران الثورة، ذات المصير المشابه الذي آلت اليه المناطق الأخرى. يجب أن يكون الحفاظ على بقاء الأهالي في بيوتهم وأرضهم، هو الهم الأكبر والمسؤولية الملحة، بعد وضوح مخططات التغيير الديمغرافي، وتهجير أبناء البلد من وطنهم. ربما ثمة عوامل تساعد على إنضاج هذه المقاربة، ومن أهمها التوافق الأمريكي – الإسرائيلي – الروسي، على إبعاد إيران من المنطقة الممتدة على طول الحدود مع الكيان الإسرائيلي، وكيفية الاستفادة منه لمصلحة قوى الثورة. إن المرحلة الصعبة والضاغطة التي تمر فيها الثورة بمختلف مناطقها، تتطلب اجتراح أفكار ومخارج عملية، توازن بين متطلبات استمرار الثورة ونهوض شرطها الذاتي، والعمل على حماية مجتمع الثورة، ووقف مسلسل القتل والتهجير الذي يستنزف السوريين بصورة مؤلمة. ونشير أخيراً أنه إذا كان لا مفر من خيار المواجهة، فلنقف مع ثوارنا وأهلنا في حوران، في وقفتهم البطولية والمشرفة، دفاعاً عن الثورة والأرض والعرض، وكما انطلقت صرخة الثورة من حوران الأبية، فإن الوفاء لها اليوم هو دينٌ في رقاب كل ثوار سوريا وأبنائها الأحرار، وذلك بأن نعزز روح التحدي والصمود، ونأبى أن ينال اليأس من عزيمتنا، بعد كل هذه التضحيات العظيمة التي قدمها شعبنا على طريق نيل الحرية والكرامة.