علي أنوزلا
لم يحزن على سقوط حكم بشّار الأسد سوى قِلة من الناس، وحتى الذين كانوا يؤيدونه ويطبلون له، واستفادوا من نظامه، خرجوا يتبرؤون منه، ويهاجمونه أكثر مما فعل معارضوه وضحاياه، وتلك هي طبيعة المتزلفين الانتهازيين والمنافقين الجبناء، يتقلبون مع تقلّب الأحوال. لكن السقوط المدوّي لواحد من أبشع الأنظمة الاستبدادية شرق المتوسط يعلّمنا دروساً كثيرة، مع الأسف لا يستفاد منها في منطقتنا التي أصيبت بنكباتٍ كثيرة كانت وراءها أنظمة استبدادية، تساقطت مثل أوراق الخريف تباعاً، من نظام صدّام حسين في العراق إلى أنظمة زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر ومعمّر القذافي في ليبيا وعلي عبد الله صالح في اليمن وعمر البشير في السودان وعبد العزيز بوتفليقة في الجزائر، وصولاً إلى نظام بشّار الأسد في سورية، ولا يعرف من سيكون التالي في قائمة الأنظمة الاستبدادية المهدّدة بالسقوط. وبعد كل سقوطٍ مدوٍّ لواحد من هذه الأنظمة تبرز الدروس نفسها التي لم تستفد منها الأنظمة التي تساقطت بفعل الأسباب نفسها، ولا مؤيدوها ممن ظلّوا يساندونها حتى تهاوت وتركتهم كالأيتام العاقين، يبرّرون تأييدهم لها بجُبنهم وخوفهم، ولا يتردّدون في انتقادها ومهاجمتها في نكران مخزٍ للجميل، ونفاق مقزّز يفضح طبيعة هؤلاء المتملقين.
في الحالة السورية، ثمّة أكثر من درسٍ على الدول والشعوب الأخرى أن تتعلّمه من انهيار نظام عائلة الأسد التي حكمت البلاد بالحديد والنار 53 عاماً، ضيعت عليها عقوداً من التطور والتقدم، وأهدرت الكثير من مقدراتها في صناعة وإطالة عمر واحد من أكثر الأنظمة الاستبدادية دموية وبشاعة. فكيف استطاع نظام آل الأسد الذي لم يكن يمتلك أي شرعية، لا ديمقراطية ولا شعبية ولا دينية ولا حتى شرعية الإنجاز، ليستمرّ عدة عقود جاثماً على صدور السوريين وكاتم أنفاسهم؟ ليس بالضرورة أن نبحث عن الجواب في طبيعة الكيانات السياسية وكيفية تشكلها، وإنما أيضاً في طبيعة المحكومين من خلال علم الاجتماع السياسي و”علم النفس السياسي”، بالعودة إلى النفس البشرية، لفهم سلوكي الفرد والجماعة وتفسيرهما من منظور نفساني وسيكولوجي. فمن صنع من الأسد وقبله والده طاغيين مستبدّين هم الناس من حولهما الذين كانوا يتملقون لنظامهما ويتودّدون إليه. من يصنع الطواغيت هم العبيد، كما يشهد على ذلك ابن خلدون الذي يُنسب إليه قوله: “لو خيّروني بين زوال الطغاة وزوال العبيد، لاخترتُ بلا تردّد زوالَ العبيد، لأنَّ العبيدَ هم الذين يصنعون الطواغيت”.
السلاح الذي كان يكدّس منذ خمسة عقود لمحاربة إسرائيل دمّره الجيش الصهيوني في خمسة أيام، ومعه انهارت كذبة “قلعة الصمود والممانعة”
هذا هو الدرس الأول والقديم قدم البشرية، الذي تعيد الحالة السورية تأكيده، فمن صنع استبداد عائلة الأسد هم سوريون رفعوها إلى مرتبة طواغيت حكمتهم طيلة العقود الخمسة الماضية، مع استثناءات حاولت أن تدقّ الناقوس مبكراً، لكن من كان يتصدّى لهم هم العبيد قبل المستبد الذي عرف كيف يصنع من حوله طوقاً من المتملقين، يهتفون باسمه، ويسبّحون بحمده وينهشون لحم من ينتقده نيئاً، وبعض هؤلاء نراهم اليوم يخرُجون مبرّرين تملقهم وجبنهم. لكن يجب عدم الثقة بهم لأن من أحبّ أن يأكل لحم أخيه حياً لا يهمه أن يَغْتابَ سيّده بعد هروبه!
الدرس الثاني، وهذا موجّه إلى الحكام. هل كان أهل الشام سيتخلون عن رئيسهم، لو كان أعدل بينهم؟ أليس “العدل هو أساس الملك”، بحسب القول المأثور المنسوب إلى علي بن أبي طالب؟ لو أن الأسد عدل بين شعبه لما حمل هذا الشعب السلاح في وجهه، ولما فر هو منه في لحظة ثورته. في رسالته التي برّر فيها هروبه، قال إنه كان “صاحب مشروع وطني استمد دعمه من شعب آمن به”!. وزهاء ربع قرن من حكمه، نتيجة هذا المشروع هو ما نراه اليوم، بلد مقسّم، واقتصاد منهار، وجرائم بالجملة ضد الإنسانية ارتكبها النظام ضد شعبه. ربع قرن هو جيل كامل من السوريين كبروا وترعرعوا تحت نظام الأسد الابن، كان يمكنه أن يصنع منهم شعباً واعياً متحضراً وبلداً متقدّماً، ما يمنحه شرعية الإنجاز التي شفعت لمستبدّين في دول أخرى استبدادهم وطول مكوثهم في السلطة، والأمثلة المعاصرة والقديمة كثيرة.
من صنع استبداد عائلة الأسد هم سوريون رفعوها إلى مرتبة طواغيت حكمتهم طيلة العقود الخمسة الماضية، مع استثناءات
الدرس الثالث، وهو الجزء الذي تكتمل به الصورة، وتتضح الفكرة، طوال فترة حكمه وحكم والده، اختار آل الأسد أن يحكموا الشعب بالخوف، فحوّلوا البلاد إلى دولة مخابرات، أفرع المخابرات فيها أكثر من المدارس، والسجون فيها أكثر من المستشفيات، وأنفقوا أموال الدولة على أساليب التحكم في الناس وضبط تحرّكاتهم وإحصاء أنفاسهم وتأويل نياته والتلصّص على أحلامهم. والجزء الآخر من مقدّرات الشعب أنفقوه على تقوية ترسانتهم العسكرية، ليس من أجل محاربة إسرائيل، كما كانوا يدّعون، وإنما من أجل تخويف الشعب وترهيبه. وطيلة فترة حكمها، تعرّضت سورية لهجمات واعتداءات مذلّة من إسرائيل، وظلّ النظام في عهد الأسد الأب والابن يردّد مقولته “سوف يأتي الردّ المناسب في الوقت المناسب”. ومع كل اعتداء إسرائيلي، كانت هيبة النظام ومصداقيته تتهاوى، والرد الموعود لا يأتي. وعندما انتفض في وجهه شعبُه لم يتأخّر الرد، ولم يأت متناسباً، وإنما براميل متفجّرة وقصف عشوائي حرق الأخضر واليابس. لذلك، عندما نشاهد اليوم الغارات الإسرائيلية تدمّر السلاح والمقدّرات العسكرية السورية، يتساءل المرء ماذا لو أن تلك الأموال أنفقت على تدريس الشعب السوري وتنميته؟ من يحمي البلدان شعوبها، حتى لو كانت بدون أسلحة، لأن إرادة الشعوب لا تغلب ولا تقهر، وفي هذا درسٌ إلى كل الأنظمة التي تنفق أموال شعوبها على شراء أسلحةٍ تعرف أنها لن تستعملها سوى ضد شعوبها أو سوف تتركها يأكلها الصدأ حتى تُباع في أسواق الخردة، أو تتحوّل إلى وقود لحروبٍ أهلية طاحنة. والأمثلة كثيرة ماثلة أمامنا في العراق وليبيا واليمن والسودان. أما في سورية، فإن الغصة كبيرة، لأن السلاح الذي كان يكدّس منذ خمسة عقود لمحاربة إسرائيل دمّره الجيش الصهيوني في خمسة أيام، ومعه انهارت كذبة “قلعة الصمود والممانعة”!
خلاصة القول إن الدول تبنيها الشعوب، وليست الأنظمة، لأن هذه زائلة ومتغيّرة ومتبدّلة. أما الشعوب فهي باقية متجذّرة. وحكم الشعوب لا يكون بالخوف أو الترهيب، ولا بعدد أفرع المخابرات وعدد السجون، وإنما بالتعليم والتثقيف والتنمية البشرية وبإشراك الشعب في إدارة نفسه وتدبير مقدراته من خلال مؤسّسات ومجالس منتخبة، حتى يشعر بأنه شريك في إدارة الدولة وبناء الوطن، وليس مجرّد عبد عند سيده عندما يهرب تسقط الدولة فوق رأسه وينهار الوطن تحت قدميه.
المصدر: العربي الجديد