معقل زهور عدي
حكى لي الصديق المرحوم الدكتور عادل زكار أنه أثناء خدمته العسكرية زمن الوحدة مع مصر في لبنان كضابط مكلف بمتابعة السياسة اللبنانية , كان يزوره الكثير من السياسيين اللبنانين والصحفيين وقبضايات الحارات وكلهم يعرضون خدماتهم بمقابل , أحدهم صاحب جريدة جاء إليه وطلب مبلغا من المال لقاء موقفه الداعم لنظام الوحدة , وبعد أقل من شهر جاء ثانية وطلب مبلغا آخر , وحين ذكره المرحوم عادل أنه قد قبض بالفعل مبلغا محترما قبل أقل من شهر , غضب وأجاب : هناك من يدفع لي أكثر لكني فضلت أن أكون لجانبكم .
أيضا أحد قبضايات الحارات كان يتردد إليه ويسأله إذا كان يريد أي خدمة بما في ذلك إخراج مظاهرة أو دعم مرشح …الخ ..
الحقيقة أن هذا هو أكثر جوانب الحياة السياسية اللبنانية سوءا , بل هو الجانب الذي دمر الحياة السياسية اللبنانية وكان وراء تسيد الروح الطائفية على حساب الروح الوطنية ومهد لصعود حزب الله وإمساكه بمفاصل الدولة .
وعلى النقيض فقد كان الارتزاق السياسي حالة محدودة التأثير , محاصرة , وينظر إليها كفضيحة يمكن أن تقضي على المستقبل السياسي لمن يتهم بها في سورية , لذا كانت الحياة السياسية في سورية الخمسينات أكثر نقاء وأقل تلوثا , واستمر الحال على ذلك النحو لفترة من الزمن .
خلال ماسمي بربيع دمشق في الفترة القصيرة التي أعقبت موت حافظ الأسد وتسلم الطاغية الهارب بشار للحكم بدأت جريدة النهار اللبنانية تنشر مقالات مدفوعة الثمن لمعارضين سوريين , وبالطبع لم يكن ذلك يثير أي انتباه خاص ونظر إليه الناس ببراءة , لكن الملفت أن الجريدة ذاتها توقفت فجأة عن نشر أي مقال لكاتب سوري دون مقدمات , وقد عرف المهتمون بالأمر بعد ذلك أن الجريدة كانت تتلقى تمويلا من مصادر خليجية على الغالب من أجل نشر تلك المقالات وأن ذلك التمويل قد توقف .
بعد انطلاق الثورة السورية وانتخاب المجلس الوطني غرقت الساحة السورية بالأموال الخليجية والغربية , وباستمرار كانت هناك اتهامات متبادلة للمعارضة السورية السياسية والعسكرية بالفساد , وبلغ الفساد في مؤسسات المعارضة بعد ذلك حدا لم يسمح بوجود تحقيقات شفافة تظهر كيف صرفت مئات الملايين من الدولارات التي أغرقت تلك المؤسسات وماهي حقيقة التهم المتبادلة بين المعارضين .
أما نتيجة ذلك الفساد فقد كانت واضحة , لقد فقدت مؤسسات المعارضة المصداقية ولم تعد تمثل الشعب السوري بل أصبحت مجرد أداة سياسية تتوزع الولاء وفق الجهات الممولة .
لكن ظاهرة أخرى أكثر عمقا في اختراق النخب السورية كانت تجري في صمت وهدوء , تمثلت في تحويل المثقف السياسي المعارض إلى موظف لدى مراكز بحوث أو منظمات حقوقية أو تحت إطار جمعيات تحمل شعارات جميلة وبراقة .
هذا المثقف السياسي السوري الذي توطن في المغتربات وعايش قسوة الغربة وجد من يقدم له راتبا شهريا محترما لقاء جلوسه في مكتب مريح والقيام بمهام بحثية تتصل بالحالة السورية السياسية والاجتماعية والتاريخية .
حسنا لكن ماذا في ذلك ؟
لقد تم احتواء وتدجين طبقة بكاملها من المثقفين السياسيين السوريين , فلم يعد بإمكانهم رؤية العالم خارج رؤية رب العمل الذي يمنحهم تلك الرفاهية المترفة نسبة لأقرانهم الذين غرقوا في الفقر المدقع .
لن يظهر أي أثر سلبي لذلك الاحتواء بطريقة مباشرة , وعلى النقيض فسوف نرى انتاجا ثقافيا أكثر مهنية واحترافا , كما سنرى إثراء للمكتبة العربية بأبحاث متميزة وتطويرا لأدوات معرفية أكثر حداثة ومنهجية .
لكن الاشكالية ستظهر لاحقا , حين لايعود المثقف يشعر بحرية كافية في اتخاذ موقف سياسي يتطلب منه أن يكون حرا بمعنى الكلمة وليس حرا نسبيا .
وقتها سيفكر ذلك المثقف الموظف مئة مرة ليتأكد أن موقفه السياسي لن يغضب رئيسه بحيث يستغني عنه وهو يعلم في قرارة نفسه أن ذلك القرار يمكن أن تتخذه الادارة بسهولة ودون تردد .
هذا الثمن وحده كاف لتدجين المثقف السوري المعارض وضمان أن نشاطه وحيوية تفكيره أصبحت مقيدة كما يتم تقييد جماح الفرس بأسوار المزرعة كي لاتبتعد كثيرا .
بعد ذلك يمكن في أي لحظة استدعاء المثقف إلى مكتب المدير العام وتوجيهه بألف طريقة وطريقة وكفى الله المؤمنين شر القتال .
ماهي النتيجة بصراحة ؟
النتيجة أن طبقة كاملة من النخب السورية لم تعد مؤهلة لتمارس وظيفة الطليعة الوطنية في المجتمع .
هكذا نكون قد ربحنا أبحاثا مبتكرة جدية في حقول السياسة والاجتماع والتاريخ , لكننا خسرنا نخبنا كطليعة قادرة على اتخاذ مواقف سياسية حرة تمكنها من قيادة المجتمع .