أما و قد وضعت الانتخابات التركية أوزارها، و تكشفت النتائج، و اتضح شكل و توزع النسيج البرلماني، فلا بد من مراجعة هادئة للواقع الذي أفرزته، و المشهد الذي رسمته، بعيداً عن حالة “العواطف البصلية”، المدرة للدموع، و لكلمات المديح و الإطراء، و الشماتة. رسمياً، فاز السيد رجب طيب إردوغان بمنصب الرئاسة من جديد، في معركة قاسية، تعددت جبهاتها الداخلية و الخارجية المغرضة، كما تنوعت خطط و تكتيكات أقطابها السياسية و الإعلامية و الاقتصادية، و حتى التاريخية و الدينية، المعادية بشدة تصل حد الوقاحة. و رسمياً أيضاً، حقق حزب العدالة الذي يرأسه السيد إردوغان أعلى نسبة في البرلمان. لكن فعلياً، للأرقام دلالات أخرى تقول أنه فاز، و لكن …
لو بدأنا بنسبة الفوز التي حققها السيد أردوغان سنجدها حوالي 52.5 %، و هي نسبة تكفي لتفويت حلم جولة ثانية راهن عليها كثيرون. لكنها، و بلغة التسويق، تعني أنه لم يستطع اختراق فئة “اللا منتمين” أو الحائرين، التي تكون عادة هدف المرشحين. فهؤلاء يبقون مترددين حتى اللحظات الأخيرة في تحديد الاختيار. هنا يجب أن نسجل لمرشحة الحزب الجيد، الوافد الجديد، و الطارئ، على عالم السياسة التركي، تسجيلها هذا الاختراق، على حساب الأحزاب العريقة، و القديمة، المتواجدة على الساحة، مثل حزب السعادة. و نذكر هنا أن هذه النسبة حققتها أصوات ائتلاف الشعب، و ليس حزب العدالة و مناصروه، كما في المرات الماضية. بالتالي، سيصعب تحديد نسب و انتماءات الناخبين ككل، و أولئك المنتمين لأحزاب ائتلافه، حتى وصل إلى تحقيق تلك النسبة. لكنه بالتأكيد بحاجة لمراجعة حقائق الأرقام و النسب، و الوقوف على مواطن الخلل لمعالجتها، مع اعترافنا باستثنائية الصراع .
و إذا انتقلنا إلى النسب المحققة في البرلمان سنجد أن حزب العدالة خسر آخر نسبة حققها و هي حوالي 49 %، فلم يسجل إلا 43 % تقريباً. و بناء عليه، لم يحقق لوحده الأغلبية المطلوبة و المريحة، 301 من أصل 600، بل حققها بالاشتراك مع الحركة القومية. أي أن الحزب يدخل البرلمان “متعكزاً” على شريكه.
بلغة الأرقام تلك، الحزب و الرئيس كلاهما خسرا نسباً مؤثرة. و هذه الخسارة جعلتهما محكومين للشريك الآخر. و هذا يعني، ربما، محدودية الراحة في صنع القرار و في التنفيذ، و الأهم، فتح بازارات جانبية لتمرير أي قرار في البرلمان. بكلمات أخرى، هناك فائز رسمي، و فائز فعلي، في هذه الانتخابات المفصلية. و هذا ليس سلبياً بالمجمل. لكنه، بالتأكيد، سيرمي بظلال ثقيلة على ديناميكية الفعل السياسي.
مع نفي التشكيك في نزاهة و وطنية و حكمة الشريكين، فإن حجم التقاطعات بينهما قد يجعل الصدام غير مستبعد في وقت من الأوقات، و هو صدام سيصب حتماً في مصلحة المعارضة المتربصة. لكن، من ناحية أخرى، ربما يكون وجود السيد بهتشلي إلى جانب السيد أردوغان، صمام أمان مطلوب في هذه المرحلة، يرده إلى الواقع الذي يعيش فيه الناخب التركي، إلى تلك الأحلام الصغيرة التي دائماً ما تتوارى أمام الحلم الكبير، كحلم بناء الوطن و الأمة، و إعادة أمجادها الغابرة، مع أن الرجل لم يقصر بالمجمل.
الحقيقة أن لحظة التحول التاريخية هذه في حياة الجمهورية التركية الحديثة أرسلت عدة رسائل، و باتجاهات مختلفة، و يبقى على المتلقي فهمها و العمل بمقتضاها.
الرسالة الأولى أرسلت إلى داعمي و مناصري السيد أردوغان، تذكرهم أنه في النهاية إنسان، يخطئ و يصيب. و إن كانوا هم لا يرون إلا نجاحاته، فهناك من يرى أخطاءه، بل و يسجلها. و لذلك، إذا كنتم فعلاً تناصرون الرجل فانصحوه، و لا تبرروا له. نصف الناخبين تقريباً لم يصوتوا له، و هذا رقم له مدلولاته السلبية على الدعم الشعبي المطلوب مستقبلاً. لا تصنعوا منه طاغية، عن غير قصد، في عيون تسيرها الآذان.
الرسالة الثانية أرسلت إلى القائمين على حزب العدالة و التنمية، و مفادها ضرورة التوجه السريع نحو الإصلاح و الإنعاش. فليس كل من انتمى إلى الحزب كان انتماؤه خالصاً له و للبلد. لا بد من إعادة النظر في الاستراتيجة المتبعة و تطبيقاتها، التي جعلت هذه النسبة الكبيرة تحجم عن التصويت للحزب، على الرغم من الإنجازات اللامسبوقة التي حققها خلال فترات حكمه.
الرسالة الثالثة للمعارضة التركية. فالهلهلة التي ظهر عليها خطابها، و الضياع الذي أظهره فكرها، و محدودية الرؤية التي لمسها الجميع، جعلت الخسارة مؤكدة أمام شخص له كاريزما و مقدرة و تاريخ مثل إردوغان. و لولا اللعب المسف بالورقة السورية، و الاستفادة من تأثير المواقف الخارجية على بعض الناخبين، لما حققت شيئاً مما حققته.
الرسالة الرابعة إلى الحكومة العتيدة. الحرب الحقيقية ستبدأ من يوم 25/ 6 / 2018. فالمتربصون بتركيا، لن يستسلموا، على الرغم من الهزائم التي منيت بها خططهم السابقة، لكن (جرابهم) لازال ممتلئاً بالمفاجآت. و التصدي لهم يتطلب ترميم الجبهة الداخلية و الوصول الضروري إلى الهموم الشعبية التي لم تعالجها الحكومات السابقة، غفلة أو أن المعالجة كانت جزئية.
الرسالة الخامسة للسوريين المتواجدين على الأرض التركية. موضوع إعادتكم إلى بلدكم طبيعي أن يطرح في حدث مثل هذا، و ليس بالضرورة أن يعبر عن عداوة أو بغضاء. لكن الأسلوب هو الذي اختلف. مأسسة الوجود في تركيا باتت ملحة، فالعمل أو المقاربة الفردية لا تعتبرها المؤسسات مهما كانت جدية. اغتنموا الفرصة كي تنموا هذا الجانب المفقود في ثقافة التعاملات عندنا، فهي فرصة لازالت متاحة. و عليكم إعادة النظر بسلوكياتكم التي تنفر الشعب التركي منكم، و تجعلكم ورقة ضغط سياسي قد تضر من أعانكم و استقبلكم.
تركيا الآن تعبر الصراط. هناك من سيسقط، و هناك من سيعبر. هناك من سيدفع ثمن أخطائه، و هناك من سيصل بفضل إيمانه. هناك من سيعمل على دعم المسيرة، و هناك من سيواصل النباح. لكن المؤكد أن تركيا تسير في طريق باتجاه واحد، لا عودة فيه إلى الوراء. لن يكون العبور سهلاً، فالأعداء كثر، و المطبات تزرع، و مراجل الحروب تسعّر. و أمام كل هذا، لا بد من جبهة داخلية متفهمة و واعية تدرك حجم التحديات، و تدرك الموقع الجديد لبلدها، و تميز عدوها الحقيقي، في الداخل و الخارج، و تعرف كيف تعاتب، و كيف تحاسب، و كيف تضرب بيد من حديد عند اللزوم.