عبد الله تركماني
تعيش سورية اليوم مرحلة انتقالية، جاءت بعد 54 عاماً من تسلط آل الأسد، ومن المهم رؤية محتوى هذه المرحلة وصياغة أسئلتها، انطلاقاً من التحوّل المؤسسي القائم على مجموعة قيم دولة الحق والقانون: الحرية والكرامة والديمقراطية وحقوق الإنسان.
ولعلَّ ما طرحته قيادة إدارة تصريف الأعمال، حول ضرورة الانتقال من الثورة إلى الدولة، يشكل مدخلاً هاماً لنجاح مرحلة الانتقال من الدولة التسلطية إلى الدولة المنشودة، التي تلقى قبولاً من أطياف الشعب السوري كافة. وفي هذا السياق تواجهنا عدة أسئلة وتحديات: هل ستكون الجمهورية السورية الثالثة دينية أم مدنية؟ برلمانية أم رئاسية أم مختلطة؟ ما مدى ضمانها للحريات الفردية والعامة بما فيها حرية المعتقد؟ وكيف يتم تأمين التداول على السلطة والفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية)؟ وهل سيتم تشكيل هيئة مستقلة للانتخابات تضمن نزاهتها؟
ولا شكَّ أنّ نجاحنا في الانتقال إلى دولة الحق والقانون مرهون بكيفيات تعاطينا مع التحديات السابقة، وما يرتبط بها من مؤسسات فاعلة ومجدية، ومدى قدرتنا على توفير أوسع إجماع سياسي واجتماعي من المكوّنات السياسية والفكرية والاجتماعية كافة. ويعتمد هذا الإجماع على ثقة المواطنين السوريين وتعاونهم، من خلال تأمين حرياتهم وعدم فرض توجهات سياسية وثقافية معينة عليهم.
ومن المؤكد أنّ القضيّة ليست فقط في الخيارات التي ينبغي التوجه لها وإنما في تأمين كيفيات الوصول إليها، من حيث الأدوات والمؤسسات، آخذين بعين الاعتبار غنى مجتمعنا بتعدد مكوّناته الفكرية والسياسية والطائفية والمذهبية والقومية، وكيفية تحويل هذا التعدد إلى فرصة وغنى بدل أن يشكل مخاطر على الهوية السورية الجامعة، من خلال التوجه إلى الدولة المدنية باعتبارها وسيلة للمواطنة المتساوية لا للمحاصصة.
من الأسئلة التي تُطرح علينا: ما الذي ينبغي تغييره؟ وما الذي ينبغي الإبقاء عليه؟ وكيف نضمن التطورات المستقبلية؟ وماذا نفعل بالثقافة السلطوية القديمة؟ وهل التغيير يحدث من تلقاء نفسه أم لا بدَّ من إدارته؟ وما الفترة التي ستستغرقها عملية التحوّل؟ وهل يمكن لثقافة سياسية بكاملها أن تتغير لتحلَّ محلها ثقافة أخرى؟ وكيف يتم تفكيك آثار النظام السلطوي السابق والدولة الأمنية؟ وكيف يعاد إنتاج النظام السياسي على نحو يؤسس لديمقراطية تشكل أساساً للتغيير بكل مستوياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بما يفرضه ذلك من إعادة بناء الدولة السورية الحديثة؟
إذ إنّ التحوّل يشير إلى مرحلة وسيطة تضمن تجاوز الأسس البنيوية التي ارتكز عليها النظام التسلطي لآل الأسد، وإرساء البنى والمؤسسات التي يمكن أن تكون أسساً لدولة الحق والقانون. مما يفرض إطلاق الحريات العامة، بما فيها قوانين مرنة لتأسيس الأحزاب السياسية والمنظمات المتنوعة للمجتمع المدني، لإشاعة التنافسية السلمية البرامجية بين القوى السياسية والمجتمعية، كي تمارس أدوارها كقوى اقتراح ورقابة لتحسين أداء إدارات الدولة.
وما يضمن نجاح عملية التحوّل تشكيل جمعية تأسيسية توافقية، من أولى مهامها إعلان هيئة الحكم الانتقالي التشاركية بين جميع الأطراف السياسية والاجتماعية المعنية بإنجاز عملية التحوّل، طبقاً لإعلان دستوري مؤقت تعلنه الجمعية التأسيسية، وفي الوقت نفسه إعداد الدستور الدائم، الذي تجري على أساسه الانتخابات المفترض أن تشرف عليها، في كل مراحلها، هيئة مستقلة تعلن قانوناً للانتخابات لضمان نزاهتها ونتائجها التي تعبرّ عن إرادة الشعب السوري.
ولا شكَّ أنّ نجاح عملية التحوّل والانتقال إلى دولة الحق والقانون مرهونة بانخراط مختلف أطياف الشعب في بناء الجمهورية السورية الثالثة، التي تفسح في المجال لحياة سياسية ومجتمعية فعّالة. بما يضمن اعتماد نظام مدني يضمن المواطنة المتساوية لجميع السوريين والسوريات، في ظل الهوية السورية الجامعة التي تحتضن الهويات الفرعية لكل أطياف الشعب السوري، وتعتبرها مصدر غنى لمستقبل سوريا، حيث يشعر الجميع بانتمائهم الوطني الجامع، في ظل دولة الكل الاجتماعي.
وفي هذا السياق لا ينبغي توجيه طاقات الشعب السوري لتصفية الحساب مع الماضي وإهمال تحديات الحاضر وتأجيل التفكير في آفاق المستقبل، بحيث لا تُختزل الأمور بالفصل التعسفي بين ما هو سياسي عمّا هو اقتصادي واجتماعي، إذ إنّ السوريين، إضافة إلى الحياة السياسية النشطة أحوج ما يكونون إلى ضمان مستوى معيشي مناسب من خلال تأمين العمل والسكن والصحة والتعليم، بما يتطلب إصلاحاً شاملاً لكل مؤسسات الدولة، طبقاً للشرعة العالمية لحقوق الإنسان ومبادئ الحوكمة الرشيدة (المساءلة، والشفافية، والكفاءة).
ومن أجل أن نحصّن الدولة السورية الجديدة من خطر المساعي الخبيثة لقوى الثورة المضادة يجدر بنا السعي إلى انخراط كل القوى الحية في المجتمع السوري لاستكمال عملية الانتقال إلى الجمهورية السورية الثالثة.
المصدر: تلفزيون سوريا