روبرت د. كابلان
مقال هام جدا لروبرت كابلان يتنبأ فيه عن احتمال تداعي القوى العظمى الثلاثة، أمريكا والصين وروسيا بآن واحد.
المقال مكتوب باللغة الإنكليزية وكما يتكلم كابلان في مقاله، فإن التسارع التكنولوجي قد أدى إلى تطرف القوى السياسية باتجاه أقصى اليمين وأقصى اليسار على حساب اضمحلال الوسط بيمينه ويساره.
لكن هذا التسارع التكنولوجي هو الذي مكنني من ترجمة المقال خلال ثوانٍ بالتشات جي پي تي وهو ما يعني أن ردم الفجوة المعرفية في البلدان التي تحررت من الاستبداد قد تتسارع مبتدئة رحلتها من حيث انتهت تلك التكنولوجيا في البلدان التي بدأت بالانزلاق نحو الهاوية.
هذه نقطة هامة على الحكام الجدد الانتباه لها وهو يديرون السفينة الحديدة.
وإليكم ترجمة المقال.
حافة الفوضى
الولاية الثانية لدونالد ترامب ستعجل من تراجع أمريكا في وقت تعاني فيه روسيا والصين أيضًا من أزمات.
بقلم: روبرت د. كابلان
يقف العالم على حافة الهاوية، والمؤشرات ليست إيجابية. لقد كانت الولايات المتحدة هي القوة الاقتصادية التي أنقذت الحضارة الغربية خلال الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة. لكن بينما كانت الولايات المتحدة تمثل نصف الإنتاج الصناعي العالمي عام 1945، فإنها تمثل الآن نحو 16% فقط. ويبلغ الدين القومي الإجمالي لأمريكا 36 تريليون دولار، ويزداد بمعدل تريليون دولار سنويًا. ولا يبدو أن أيًا من الحزبين، الديمقراطي أو الجمهوري، يتمتع بالحد الأدنى من الانضباط الذاتي اللازم لكبح هذه الديون. وقد كانت الأعباء المالية والتعقيدات من العوامل التي ساهمت في انهيار القوى العظمى والإمبراطوريات في الماضي، مثل روما، وإسبانيا في العصر الحديث المبكر، والنمسا الهابسبورغية، وبريطانيا. وهذه المسألة مهمة للغاية، إذ لطالما كانت القوى العظمى – سواء أحببناها أم لا – هي التي تحافظ على النظام العالمي. ومع ضعفها، تتسلل الفوضى حتمًا. هذه هي الخلفية التي تجعل الانتخابات الأمريكية الأخيرة مجرد حلقة واحدة في إطار أوسع.
كانت تلك الانتخابات من أكثر الانتخابات الرئاسية إثارةً للجدل في تاريخ أمريكا، حيث كشفت عن انقسام مميت في البلاد على أسس أيديولوجية وطبقية وثقافية، وهي خطوط رسمتها العولمة التي جذبت نصف المجتمع الأمريكي إلى دائرتها العالمية، وتركت النصف الآخر متخلفًا. يتمثل النصف العالمي في طبقة وسطى عليا ليبرالية أنيقة، تتذوق الويسكي وتحب السفر إلى أوروبا، لكنها لا تفكر أبدًا في زيارة ولايات الداخل التي تشكل معقل أنصار ترامب. أما النصف الآخر، فهو عاجز عن المنافسة عالميًا لأسباب شخصية وثقافية، وباقٍ في الدولة القومية القديمة. وهذه ليست حالة أمريكية فقط، بل هي ظاهرة تتكرر في العديد من الدول الغربية المنقسمة بفعل العولمة، تمامًا كما ينقسم العالم النامي عن الغرب، وتنقسم القوى العظمى فيما بينها.
ومع ذلك، تظل أمريكا هي العامل الحاسم: فقد احتلت موقعًا مركزيًا في النظام العالمي على مدى قرن تقريبًا لدرجة أصبحنا نعتبره أمرًا مسلّمًا به. ففي عصر الطباعة والآلة الكاتبة، أنتجت الديمقراطية الشعبية ديناميكية أمريكية اتسمت بالاعتدال وبسيطرة التيار الوسطي، في بيئة إعلامية قائمة على النقاش المنطقي الممتد. أما في العصر الرقمي المرئي، الذي يكافئ مقاطع الفيديو القصيرة التي تحفّز المشاعر العاطفية، فقد تغذّت أطراف الأحزاب المتطرفة، مما أدى إلى شلل سياسي. وبسبب اختفاء التيار الوسطي، الذي كان يجمع الحزبين الرئيسيين، أصبحت الانتخابات الوطنية تحمل طابعًا وجوديًا، إذ بات كل طرف يكره الآخر. في الواقع، يصعب تصور ظهور شخصية مثل دونالد ترامب خارج عصر الفيديو الرقمي.
لقد كان صعود وسقوط القوى والإمبراطوريات العظمى مرتبطًا دائمًا بالتكنولوجيا الجديدة والضغوط التي تفرضها على المجتمعات والحضارات. وبمرور الوقت، قد تصبح الولايات المتحدة مجرد إمبراطورية عظيمة لعصر النفط والغاز والآلة الكاتبة، رغم شبكة الطرق السريعة الهائلة التي تمتلكها.
وقد يتجلى هذا التراجع سريعًا في حال فوز ترامب بولاية ثانية، إذ يُتوقع أن تكون أكثر راديكالية من الأولى. ففي ولايته الأولى، استقطب ترامب بعض الجمهوريين التقليديين المؤهلين لشغل مناصب قيادية. أما هذه المرة، فيبدو أنه يعتمد على شخصيات مثيرة للقلق، مثل تولسي غابارد، التي لا تمتلك أي خبرة تؤهلها لمنصب مدير الاستخبارات الوطنية.
لا يظهر ترامب أي علامات على النضج السياسي مع مرور الوقت. فهو اندفاعي ومتهور، كما تثبت مشكلاته القانونية المستمرة. ويجب أن نذكر أن السياسة الخارجية الأمريكية ليست مجرد قرارات رئاسية، بل هي مزيج من الغرائز الرئاسية والمهارات البيروقراطية. الرئيس يتخذ قرارات حاسمة بشأن الحرب والسلام، لكن التنفيذ يتم عبر شبكة واسعة من المسؤولين في وزارتي الخارجية والدفاع.
غالبًا ما يُنتقد هؤلاء المسؤولون باعتبارهم جزءًا من “الدولة العميقة”، لكنني أعرف العديد منهم وأشهد على كفاءتهم وتوازنهم النفسي. في الإدارة الثانية لترامب، سيُستبدل هؤلاء بكوادر أقل كفاءة، بسبب سمعة ترامب السامة بين النخب. بل وقد تظل بعض المناصب شاغرة، إذ يخطط ترامب لتقليص الجهاز البيروقراطي الفيدرالي بشكل كبير. هذه هي الآلية الصامتة التي ستقود إلى تراجع النفوذ الأمريكي.
لكن التراجع لا يعني السقوط الفوري. فقد تراجعت إمبراطوريتا الهابسبورغ والعثمانيين في القرن الـ19، لكنهما لم تنهارا إلا بعد الحرب العالمية الأولى. وغالبًا ما تكون عملية التراجع طويلة، وقد تشهد فترات انتعاش. وربما يكون ترامب – بشكل ساخر – عاملًا مساعدًا في إحداث إصلاحات هيكلية، بدعم من شخصيات مثل إيلون ماسك، لإعادة بناء جهاز حكومي أكثر كفاءة.
إن الحديث عن التراجع قد يكون مبالغًا فيه. فبريطانيا شهدت تراجعًا في قوة أسطولها البحري منذ تسعينيات القرن الـ19، لكنها ظلت قادرة على الانتصار في حربين عالميتين وإنقاذ الحضارة الغربية. والأمر ذاته قد ينطبق على الولايات المتحدة، التي لا تزال تتمتع بموقع جغرافي استثنائي: تحيط بها محيطات من الشرق والغرب، وحدود شمالية آمنة مع كندا، بينما تظل الحدود الجنوبية مع المكسيك التحدي الرئيسي. ورغم الجدل حول هذه الحدود، يظل هذا التحدي محدودًا مقارنةً بالتحديات الحدودية التي تواجهها روسيا والصين.
أما الصين، فتواجه أزمة اقتصادية خانقة. ملايين الوحدات السكنية الجديدة فارغة وسط تراجع عدد السكان. والاستثمار العقاري، الذي يمثل جزءًا كبيرًا من الثروة الصينية، يعاني من التراجع. وتخنق السياسات المركزية التي ينتهجها شي جين بينغ فرص النمو، ما يهدد باضطرابات اجتماعية ضخمة مستقبلاً. وأمام هذه الأزمات، تظل الولايات المتحدة أفضل حالًا حتى في ظل رئاسة ترامب.
وفي روسيا، أضعفت الحرب في أوكرانيا نفوذ موسكو في القوقاز وآسيا الوسطى وسيبيريا والشرق الأقصى. ورغم تفوق روسيا التكتيكي الحالي، فإن الدولة الروسية – التي تفتقر إلى مؤسسات قوية – تواجه أزمة وجودية. النخب الروسية منقسمة: بعضهم يرفض الحرب، لكنهم يخشون انهيار الدولة في حال سقوط بوتين.
وسط هذا المشهد، تظل أمريكا في وضع أفضل مقارنةً بروسيا والصين. فالنظام الديمقراطي الأمريكي، رغم عيوبه، يتيح فرصًا متجددة للإصلاح. وفي المقابل، تعاني أوروبا من أزمات حدودية مع روسيا ومن تدفق اللاجئين من أفريقيا والشرق الأوسط. وتغير هذه الموجات السكانية تدريجيًا ملامح أوروبا الديموغرافية، مما يثير نزعات شعبوية تهدد التيار الوسطي.
أما مجموعة بريكس+ (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، بالإضافة إلى إيران ومصر وإثيوبيا والإمارات)، فهي تفتقد إلى رؤية استراتيجية موحدة. فرغم مساعيهم لإنشاء نظام تجاري خارج نطاق الدولار، فإن تباين مصالحهم الجغرافية والسياسية يجعل تأثيرهم محدودًا.
إن مستقبلنا قد لا يشهد تراجع أمريكا وحدها، بل تراجع جميع القوى العظمى بشكل متزامن، ما يؤدي إلى اضطرابات جيوسياسية متزايدة. وفي عالم أصبحت فيه الجغرافيا أقل أهمية بفعل التكنولوجيا، سيزداد شعورنا بالأزمة وعدم الاستقرار بشكل لم نعهده من قبل، وقد لا نكون قادرين على التعامل معه.
رابط المقال باللغة الإنجليزية.
المصدر: صفحة الدكتور طارق أبو غزالة