حلمي الأسمر
هل يمكن ردع الرئيس الأميركي الهائج دونالد ترامب؟ … بدايةً، لنتّفق على أنّنا، عرباً ومسلمينَ وربّما سكّاناً في هذه الأرض، أمام انفجارٍ متعدّد الرؤوس، أو قنبلةٍ عنقوديةٍ بشريةٍ، لا تشكّل حكاية “ريفييرا غزّة” غير جزء منها. وما يعنينا هنا يعنينا لأنّنا عرب بشكل عام، وفلسطينيين وأردنيين ومصريين، بشكل خاص، ومن ورائنا أمّة عربية باتت كلّها في “بوز مدفع” ترامب.
أفكار ترامب بشأن غزّة، التي لم تتحوّل (حتى الآن) خطّةً متكاملةً (أقلها علناً)، بغض النظر عن أنّها مجنونةٌ وغيرُ واقعيةٍ، وحتى غير قابلة للتطبيق وفضيحة دولية، بل ربّما تكون مجرّد هذيان محموم، إلّا أن علينا أن نأخذها على محمل الجدّ، لسبب وحيد، أنها تصدر من رجل يوصف بأنه أقوى رجل في العالم، وقادر بتوقيع أمر تنفيذي لا يكلّفه غير ورقة وقلم على خنق بلد بعقوبات تجعل حياة سكّانه جحيماً، والمشكلة أنك لن تجد أحداً في إدارته تحديداً يقول له “قف” أو تمهّل، لأنه اختار عصابةً من “الألعاب” البشرية الذين ينتفضون خوفاً منه، فما بالك بمعارضته، بل يمتدّ هذا “الخوف” إلى عدد غير قليل من ساسة العالم، تحسّباً لما يمكن أن يرتكب من “حماقات” تُلحق الأذى بهم وببلادهم.
أفكار ترامب هي الفصل الأخير في منظومة ما يسمّى “القانون الدولي”، الذي تحوّل خلال 15 شهراً من حرب الإبادة على غزّة إلى مجرّد أوراق صفراء، قيمتها لا تزيد عن قيمة أوراق الحمّام، لهذا يلزمنا، ونحن نتحدّث عن لجم هذا الثور الهائج، أن ننحّي هذا المعطى من حساباتنا. أنظروا مثلاً للعقوبات التي فرضها على المحكمة الجنائية الدولية لمجرّد أنها تنظر في جريمة الإبادة الجماعية التي ارتكبها العدو الصهيوني في غزّة. نحن اليوم أمام بلطجة دولية تستلهم طيفاً من “الفلسفات” التي حكمت غزاةً دوليين مرّوا في هذا العالم، من أمثال هولاكو وهتلر ونابليون، وإرثاً “غنيّاً باللصوصية” لأجداد ترامب من القراصنة الأوائل، الذين غزوا ما سمّي بـ”العالم الجديد”، وسحقوا سكّانه الأصليين، وأبادوهم عن بكرة أبيهم (أو كادوا)، واستولوا على بلادهم.
في هذه الأجواء، لن يكون ردع ترامب بالتأكيد بالسلوك الدبلوماسي الناعم، ولا بتقديم الخطط التي تستلهم لغةً مستعملةً أكثر من سبعة عقود، استقرت كلّها في سلّة المهملات. لا يردع هذا الحاكم تلك الأساليب القديمة في التعامل الدولي، فهو يتصرّف ديكتاتوراً لديه تفويض من غرفتي الكونغرس بحكم أميركا والعالم، ولا يكاد يحترم أحداً غير من يتماهون معه في فكره العدواني الهمجي من ناخبيه وإدارته، ومن يدعمهم من أهل اليمين المهووس في الكيان الصهيوني، بل على العكس من هذا، فهو يفسّر أيّ لين أو دبلوماسية يتم التعامل بها معه، باعتبارها ضعفاً يستدعي تشديد الهجوم و”التنمّر” على الخصم، انتظاراً لإعلان الاستسلام والتلويح بالراية البيضاء، ورفعه “قبضته” فوق جثّة هذا الخصم، تماماً كما يفعل المصارعون في حلباتهم.
إن أراد النظام العربي الرسمي أن يحافظ على وجوده، ويواجه هجمات ترامب، عليه أن يكفَّ عن اعتبار حركة حماس “كياناً إرهابياً”، وأن “يشرعن” وجودها وبقية الفصائل
من المعلوم أن مواجهة هجمة ترامب لن تكون مواجهةً عسكريةً، لأسباب واضحة للعيان، ولا تحتاج إلى شرح، فلا النظام العربي الرسمي مستعدّ لحرب كهذه، ولا جيش ترامب مستعدّ (في هذه المرحلة على الأقلّ) لإعلان الحرب على من يعارض أفكاره، فهو كما يصف نفسه “رجل صفقات”، ويطمح لنيل جائزة نوبل للسلام (!)، فماذا على النظام العربي الرسمي أن يفعل للردّ الفاعل على هجمة ترامب، ولردعه عن المضي في إهانتنا، والكفّ عن توجيه اللكمات لكرامتنا، ودعم عدونا بلا حدود، وأكثر ممّا يطلب؟
خذل النظام العربي الرسمي غزّة ومقاومتها على نحو فاضح، وانتظر “بفارغ الصبر” القضاء عليها، غير أنها خيّبت أمله، وصمدت في وجه العدوان، رغم الثمن المخيف الذي دفعته من دم مقاتليها وحاضنتهم الشعبية، حتى باتوا يقيمون في منطقة لا تتوافر على شيء من أسباب الحياة، غير ذلك الإيمان الذي يعمر صدورهم بحتمية النصر، فماذا كانت النتيجة؟ … لم يكتفِ العدوان بفعل ما فعل في غزّة، وما يفعله اليوم في الضفة الفلسطينية، بل ذهب إلى حدّ تهديد الأمن القومي العربي، ورمى بكتلة اللهب الغزّية في حضن النظام العربي الرسمي، وحلّ الكارثة التي تسبّب بها العدو الصهيوني على حساب “جيرانه”.
باختصار شديد، المطلوب اليوم من النظام العربي الرسمي، ليس تكرار ما قيل مئات المرّات عن حلّ الدولتَين، وبقية الكلام المهترئ عن مبادرات، بل إعلان دعم المقاومة الفلسطينية بوصفها عملاً شرعياً، ليس وفق “القانون الدولي” فقط، الذي لم يعد يحترمه أحد، بل لأن تلك المقاومة هي خطّ الدفاع المتقدم عن النظام العربي الرسمي نفسه، وعن أمّة العرب والمسلمين، مع الكفّ عن وضع العراقيل في طريق توحيد الفصائل الفلسطينية، إذ إن من يدعم الانقسام، ويمنع إنهاءه، هو هذا النظام العربي، الذي لا يريد أن يضفي أيّ صبغة “قانونية” على الفصائل المقاتلة، معتبراً سلطة رام الله الهزيلة الذليلة هي الممثّل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، كما يتعيّن حلّ السلطة الفلسطينية، وإعلان قيام الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967 بالكامل، وقيام حكومة وطنية في المنفى، إضافة إلى إعلان قيام الانتفاضة الثالثة، وتشكيل قيادة موحّدة لتوجيه هذه الانتفاضة.
أفكار ترامب هي الفصل الأخير في منظومة ما يسمّى “القانون الدولي”، الذي تحوّل خلال 15 شهراً من حرب الإبادة على غزّة إلى مجرّد أوراق صفراء
إن أراد النظام العربي الرسمي أن يحافظ على وجوده، ويستنهض الشعوب العربية لدعمه وحمله على الأكتاف، ويواجه هجمات ترامب، التي لن ترحم أحداً في هذا النظام، فعليه أن يكفَّ عن اعتبار حركة حماس تحديداً “كياناً إرهابياً”، وأن “يشرعن” وجودها هي وبقية الفصائل المجاهدة، في كلّ شبر من الأراضي العربية. إن خطوة كهذه ربّما تجعل ترامب ومن حوله يستيقظون من “نشوة” انتصارهم، وشعورهم المريض بالعظمة، الذي يسمح لهم بإهانة العرب والاستهانة بزعمائهم.
إن أراد النظام العربي الرسمي إنقاذ نفسه وشعبه، فعلى زعمائه إجراء مصالحة مع شعوبهم، وتبييض السجون العربية، وإطلاق سراح سجناء الرأي والمعارضين، ووقف أشكال التطبيع والتعاون مع العدو كلّها، وربطها بوقف العدوان على غزّة والضفة، أو بالحدّ الأدنى تعليق معاهدات السلام، إن لم يكن طرد سفراء العدو من الأرض العربية، إضافة إلى طرد الخبراء الأميركيين من الأرض العربية، وتعليق أي تعاون معهم، كما طرد السادات الخبراء السوفييت عام 1972.
إسرائيل لا تريد شركاء، بل خدماً وعبيداً، والمشروع الصهيوني انتفخ على حساب الأمن القومي العربي، وما لم يتحرّك هذا النظام لإنقاذ نفسه (في قمّة عربية منتظرة) فلن يكون هناك كثير من الوقت للخلاص، حكّاماً ومحكومين. إسرائيل اليوم توحّشت مدعومةً بأجندة الإنجيليين الأميركيين، الذين يستعجلون حرق العالم بانتظار عودة “مسيحهم” الدجّال.
المصدر: العربي الجديد