حسن عبد العزيز
من نافلة عالم السياسة العملية أن تختلف المواقف وتتغاير تبعاً للمواقع الإمبريقية (كما هي قائمة) لكلّ طرف، سواء على صعيد الجغرافيا السياسية، أو على صعيد موازين القوى الاستراتيجية، أو على صعيد القضايا السياسية الأخلاقية الكبرى، التي تضع أحد الطرفَين في خانة الظالم والآخر في خانة المظلوم، وما يترتّب عن ذلك من اختلاف المعايير السياسية والأخلاقية، غير أن الاختلاف والتباين في عالم السياسة لا يقتصر على الجانب الإمبريقي، بل يتعدّاه إلى عالم الأيديولوجيا، وهو عالم شديد الارتباط بعالم السياسة.
يُعتبَر المشرق العربي أكثر المناطق في العالم ازدحاماً بالأيديولوجيا السياسية، التي قد تصل إلى حدّ التضليل المعرفي. مناسبة هذا القول تصريحان متناقضان، أحدهما للقيادي في حركة حماس، أسامة حمدان، قال فيه: “محور المقاومة أصيب بأضرار، وهذه الأضرار توزّعت بين ساحات عديدة، ولا سيّما خسارة سورية، وما تعرّض له حزب الله في لبنان”. والتصريح الثاني لرئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قال فيه: “سقوط نظام الرئيس السوري المخلوع بشّار الأسد… لم يكن في صالح إسرائيل. لم نحصل على الزهور عند سقوط نظام الأسد”.
هل نحن هنا أمام تصريحين متناقضين؟ والتناقض، كما هو معروف، تعبير عن التنافي المنطقي بين عبارتَين، بحيث إن قبول إحداهما يستلزم رفض الأخرى، فلا يمكن أن يكون الحكمَان صادقَين معاً أو كاذبين معاً، بل أحدهما صادق والآخر كاذب بالضرورة. إمّا أن يكون سقوط نظام الأسد مضرّةً للمقاومة الفلسطينية حسب حمدان، وبالتالي، منفعة لإسرائيل، أو يكون العكس، أي إن سقوط النظام السوري مضرّة لإسرائيل، وبالتالي منفعة لـ”حماس”.
كيف يمكن لعدوَّين لدودَين (“حماس” وإسرائيل) أن يتّفقا على أن سقوط نظام الأسد مضرّة لكليهما على السواء؟
كيف يمكن لعدوَّين لدودَين (“حماس” وإسرائيل) أن يتّفقا على أن سقوط نظام الأسد مضرّة لكليهما على السواء؟ أيّ من هذين التصريحَين يدخل في عالم المعرفة السياسية، وأيهما يدخل في عالم الأيديولوجيا السياسية؟. … قد تبدو الإجابة حدّيةً، اعتبر بعضهم كلام حمدان صحيحاً، لأن المقاومة الفلسطينية خسرت عمقاً استراتيجياً، أو في حدّه الأدنى عمقاً تكتيكياً، إذ شكّلت سورية الأسد ما قبل الثورة ملجأً لقيادات المقاومة للعمل النضالي، فضلاً عن أنها كانت ممرّاً لتزويد حزب الله، الظهير العسكري الجغرافي الآخر للمقاومة في غزّة، بالدعم العسكري. وبهذا المعنى، تصريحات نتنياهو كاذبة، وغرضها تبرير ما تقوم به إسرائيل جنوبي سورية، من احتلال مناطق تمتدّ من جبل الشيخ وحتى محافظة درعا.
فريق آخر اعتبر كلام نتنياهو صحيحاً، مستدلّاً على ذلك، ليس بتصريح للباحث الإسرائيلي ديفيد ياكوب، الذي قال: “أسقطنا الأسد من دون قصد، وخسرنا سورية”، فحسب، بل بالاعتماد على عقود طويلة من هدوء جبهة الجولان، وعدم قيام نظام الأسد بأيّ خطوات عملية لمحاربة إسرائيل، باستثناء ما سمّي دعم المقاومة في غزّة ولبنان، وهو دعم تكتيكي غايته إضفاء بعد أخلاقي على النظام السوري ليس إلّا.
ولعلّ الفعل الحاسم الذي يؤكّد صحّة قول نتنياهو بالنسبة إلى هذا الفريق، تدمير إسرائيل المنظومات والقواعد العسكرية السورية كلّها، بُعيد سقوط نظام الأسد، إذ تخشى إسرائيل أن يخضع ما تبقّى من ترسانة عسكرية سورية بيد حكّام سورية الجديدة، في حين أنها لم تكن تخشى ذلك في أثناء حكم الأسد.
كشف تصريح حمدان المأزق والثغرة الفكرية التي تعاني منها المقاومتَان الفلسطينية واللبنانية
الفارق بين تصريحي حمدان ونتنياهو في الرؤية الاستراتيجية لكلّ منهما، انطلق حمدان من رؤيةٍ مفادها بأن العمل العسكري للمقاومتَين الفلسطينية واللبنانية سيجبر إسرائيل، في نهاية المطاف، على الرضوخ السياسي. ووفقاً لهذه الرؤية، يعتبر خسارة سورية نكسةً للمقاومة، مهما كان درجة هذه النكسة وقوتها. أمّا نتنياهو، فقد انطلق من رؤية استراتيجية مغايرة، فالعمل العسكري للمقاومتين، الفلسطينية واللبنانية، لا يمكن له أن يهدّد وجود إسرائيل على الإطلاق، ويدفعها إلى تقديم تنازلات سياسية، وما سماح إسرائيل طوال العقود الماضية بهذا النوع من المقاومة العسكرية، إلّا لأنه يبقى ضمن الحدود المقبولة إسرائيلياً أولاً، ولأن إسرائيل بحاجة دائماً (ولأسباب داخلية) إلى عدو خارجي ثانياً. لكن، عندما تجاوزت المقاومة قواعد اللعبة العسكرية، وانتقلت إلى مرحلة مغايرة تماماً عن السابق، قرّرت إسرائيل القضاء على منظومة المقاومة في المنطقة، باستثناء نظام الأسد. ولم تكن مصادفةً أنه خلال أكثر من عام (مدّة الحرب الإسرائيلية على غزّة) لم تضرب مواقع عسكرية سورية إلّا في ما ندر، فيما كانت الضربات الإسرائيلية موجّهةً للقواعد الإيرانية في سورية.
خلاصة القول، تحمل تصريحات أسامة حمدان كثيراً من الأيديولوجيا وقليلاً من السياسة، فيما يعتبر تصريح نتنياهو انعكاساً حقيقياً للواقع الاستراتيجي. وكشف تصريح حمدان المأزق والثغرة الفكرية التي تعاني منها المقاومتَان الفلسطينية واللبنانية، ما يُحتّم بالضرورة، بعد الحرب الإسرائيلية الماضية، إعادة قراءة الواقع الاستراتيجي الفلسطيني والعربي والإقليمي بلغة سياسية براغماتية، خالية من أيّ ضروب أيديولوجية قد تُعمِي أصحابها، لقد كشف الحرب زيف سورية الأسد باعتبارها قلعة “الصمود والتصدّي”.
المصدر: العربي الجديد