رشا عمران
ثمّة حالة استعلاء متبادلة ظهرت بعد سقوط نظام بشّار الأسد، بين سوريّي الخارج وسوريّي الداخل. والمقصود بالخارج كلّ من خرج من سورية هرباً من النظام، بمن فيهم من عاش في إدلب، وفي البلدان الأخرى. أمّا سوريو الداخل، فهم كلّ من بقوا في المناطق التي لم تخرج من سيطرة الأسد، أو التي استعادها لاحقاً بصفقات متنوّعة. لا يمكن الاستخفاف بهذا الاستعلاء، ذلك أنه واحد من الانقسامات بالغة الأهمية في سلسلة الانقسامات السورية المتعدّدة، التي تحتاج حلولاً جذرية، إن كنا نريد للمجتمع السوري النهوض الحقيقي المساند لبناء دولة حديثة، فهو لا يقلّ أهميةً عن الانقسام الطائفي الذي يجعل من السلم الأهلي عمليةً بالغة الهشاشة، بسبب عدم التعامل بجدّية (حتى اللحظة) مع ملفّ العدالة الانتقالية من الحكومة. كما أنه لا يقلّ أهميةً عن الانقسام الطبقي، الذي تعزّزت جذورُه بعد الثورة وسنوات الحرب، بسبب ما أنتجت من أثرياء حربٍ جددٍ، سواء في جانب النظام وبطانته أو لدى قادة الكتائب العسكرية المُعارِضة، التي سيطرت على معابرَ في مناطق خرجت عن سيطرة الأسد، واحتكرت ما فيها.
الانقسام بين الداخل والخارج يكمن في إحساس من خرجوا من سورية بأن خروجهم كان بسبب معارضتهم النظام، وملاحقته لهم، فهم أصحاب الثورة الحقيقيون، الذين دفعوا ثمناً كبيراً، فحُرِموا من العودة إلى بلادهم، وحُرموا من رؤية من تبقّى من عائلاتهم، ومن وداع من فارقوا الحياة منهم، وكثيرون منهم صودِرت أملاكهم من النظام، وحُرموا من حقوقهم المدنية. يشعر هؤلاء بأنهم أصحاب الثورة، وأصحاب الانتصار في الوقت ذاته، لذلك يصبحون شديدي الحساسية تجاه أيّ خبر عن تعيينٍ ما لشخصية من الشخصيات التي لم تغادر سورية في منصب، وهو ما ظهر واضحاً في ما يخصّ مؤتمر الحوار الوطني أخيراً. يعتقد هؤلاء أن كلّ من بقي في سورية من الكوادر كان مرضيّاً عنه من النظام، ولم يدفع أيَّ ثمن، وبعد الانتصار يجب الاعتماد على كوادر الثورة، أصحاب الحقّ في ذلك.
في المقابل، يرى كثيرون ممّن لم يغادروا سورية، أن بقاءهم وحدَه هو ما منع التغيير الديموغرافي الذي سعى إليه النظام وحلفاؤه الإيرانيون والروس، وأن ما قاسوه وعانوه من الظلم والقمع والفقر، والعيش في شروط حياةٍ غير آدمية، وتعرّضهم اليومي للقذائف، وإجبار أبنائهم على خوض الحرب وموت هؤلاء، هي أيضاً أثمانٌ باهظة لم يدفعها من خرج من سورية، وعاش في بلاد آمنة تتمتّع بالحرّيات، وبالحقوق الإنسانية الكاملة. يرى هؤلاء أيضاً أن النصر لهم، وهم الأحقّ ببناء سورية الجديدة وبتعييناتها، خصوصاً أن من قدموا إلى سورية (بعد التحرير) قدموا بوصفهم زوّاراً يدفعهم الشوق والحنين، لكن ليس الرغبة في البقاء الدائم في بلد يعاني ما يعانيه من انهيار كامل في المعيشة والخدمات والأمان.
والحال، في منطق الطرفَين من الاستعلاء ما يجب التخلّص منه جذرياً، ذلك أن سورية اليوم تقف على حافّة هاوية، وعلى جميع السوريين الإسراع في ردمها قبل أن تسحب إليها سورية والسوريين معها. الثورة الأولى التي طالبت بإسقاط النظام انتهت، لكن ثورةً جديدةً يجب أن تبدأ معها، وأن يشارك فيها جميعُ السوريين، رغم الانقسامات كلّها التي بينهم. هذه الثورة يجب أن تكون شاملةً، ويجب أن تبدأ بالقضاء على فكرة الإقصاء والمحسوبيات، التي هي جذر الفساد بأنواعه كلّها. واختصاراً لذلك كله، ينبغي الإقرار بأن ما من سلطة إلا وتُحبّ الاستفراد بالحكم، وتقريب من يبصُمون على قراراتها من دون اعتراض، ما يجعلها تلقائياً تقصي كلّ من يخالف ذلك. لكم أن تتخيلوا نتائج الإقصاء، التهميش والتفقير وإلإهمال والنسيان. ولكم أن تتخيلوا بعدها حالة الغضب التي ستنتج منه في بلدٍ خارجٍ من أكبر كارثة إنسانية في العصر الحديث. فهل نتّعظ نحن السوريين، ونبدأ في ردم الحفر والفِخاخ كلّها، التي تركها نظام الأسد البائد؟
المصدر: العربي الجديد