قيل الكثير عن الثورة السورية، وما آلت إليه من فشل واضح، وبغض النظر عن استمرارها فكرة وغاية، وعن القوة التي تبدَّت بها، حين تجرأت على الاستبداد، فصرخت، في وجهه أول مرة، صرخة شعبية هي الأوسع مدى، والأكثر حدّة، منذ اغتصب “البعث” الدولة السورية، وتفرَّد عسكرُه بها، قمعاً لمواطنيها، وتمييزاً في ما بينهم، ونشراً للتخلف والفساد على غير صعيد… فقد استطاعت الثورة أن تعرِّي محتوى الاستبداد، وأن تكشف كذبه وأضاليله، وخصوصا ما يتعلق بتحرير الجولان المحتل، الجرح السوري الأعمق، منذ نحو خمسين عاماً، هي عمر حكم “البعث” نفسه. ولا أعرف، في هذا المجال، مدى جدية إصرار حافظ الأسد على “تبريد رجليه في مياه بحيرة طبريا” (محادثات حافظ الأسد والرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون بخصوص السلام مع إسرائيل) وإذا ما كان نابعاً من موقف وطني، أو هو أحد ملاحق شعارات “البعث” الفضفاضة التي كشفت الحياة باطلها وبطلانها!
على الرغم من كثرة ما كتب وما قيل، إلا أنَّ مآل الثورة ما زال يثير، لدى المتابعين والمهتمين، وخصوصا السوريين منهم، أسئلة كثيرة باحثة لها عن إجاباتٍ مقنعة تكمن خلف ما هو معلن، ومشاهد عيان…! فقد جرت أحاديث كثيرة، وتحليلاتٌ مختلفةٌ عن ضعف تنظيم الثورة وانعدام أهدافها الدقيقة والواضحة، وغياب روافعها من قادة وفكر وأدوات، وانحرافها، منذ البدء أيضاً، باتجاه العسكرة، أو الأسلمة المتطرّفة، وظهور بعض أعلامها، مدنيين
وعسكريين، وكأنهم، في ممارساتهم “الثورية” وجه آخر للنظام…! ذلك كله، إضافة إلى ما قيل عن الداعمين والمساندين الذين كانت لهم مواقف رجراجة متأثرة، على نحو أو آخر، بضغوط بعض الأقوياء في المجتمع الدولي… كذلك جرت أحاديث عن اختراقات أمنية للنظام في صفوفها بدت، في أحيان كثيرة، فاقعة جداً…
يُعتقد أنَّ خلف كل تلك النواقص والسلبيات سبباً آخر، له تأثيره في مسار الثورة السورية، ومآلها… ذلك السبب هو عدم تبلور مفهوم الهُوِيَّة السورية في أذهان السوريين التي كان يمكن أن تكسبهم رؤيتهم الوطنية، على نحو جلي وواضح… فعلى الرغم من مرور مائة عام على توقيع اتفاقية سايكس بيكو، البريطانية – الفرنسية التي أبرمت في 16 مايو/ أيار 1916، وقضت بتقسيم تركة الإمبراطورية العثمانية في منطقة الشرق العربي/ الإسلامي أواخر الحرب العالمية الأولى… إلا أنَّ ذلك الخلل يتجلَّى اليوم في مواقف السوريين أجمعين، وفي ردود أفعالهم تجاه ما جرى ويجري على أرض وطنهم من صراع مصالح، وتطاحن اقتتال بين قوى دولية وإقليمية عدة من الدول الطامعة في موطئ قدم وبؤرة نفوذ ذي نفع…
تفرض هذه الرؤية نفسها لانعدام ظهور صوت سوري واضح، ومسموع بين طرفي القوى المتصارعة، صوت سوري، له فاعليته واستمراره، يعلن عن هذه الهوية، ويناضل في سبيل تحققها… صحيحٌ أنَّ المظاهرات الاحتجاجية الأولى كانت قد رفعت شعار: “واحد، واحد… الشعب السوري واحد…” في وجه الطائفية التي قال بها النظام، كما في وجه أي تمييز أو تمايز مما كان سائداً في الدولة والمجتمع قبل العام 2011. لكنَّ هذا الشعار صمد في الواقع العملي أشهر قليلة فقط، فسرعان ما تشعب هذا الواحد إلى واحدات وأجزاء. ومما يؤسف له، بل ما يثير الشفقة فعلاً، أنك ترى إلى السوريين، وهم في مأساتهم المروّعة هذه، يقفون، بكل اعتداد، خلف هذا الطرف أو ذاك من القوى التي تصارع باسم السوريين، يؤيدون أو يرفضون أفعالها بثقة مطلقة، وقوة إيمان، كأنما هو منقذهم الوحيد…
ومما هو معروف للجميع أن المعارضة السياسية كانت قد ترجمت ذلك الشعار السوري التوحيدي على أرض الواقع بتقاسم حصص تمثيلية، بحسب ما بات يُعرف بمصطلح “المكوِّن السوري” الذي بدا، وكأنما برز فجأة، وراحت المكونات التي أخذت تتوالد بكثرة، ترفعه، هنا وهناك، إما على أساس قومي أو ديني أو طائفي، وأحياناً على أساس مهني، وكأنما السياسي في هذا الأمر مستبعد أو ثانوي. حتى إن تلك المكونات لم تستطع أن تمنح الثقة لرئاسة مكوِّنها الأعلى (المجلس الوطني السوري ثم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية) أكثر من سنة واحدة… ربما استثنى هذا الأمر موقع رئاسة الحكومة المؤقتة، على الرغم من أن حكومة إنقاذ موازية عادت وتشكلت فيما بعد، وفي السياق نفسه.
أما الطرف الآخر، أي النظام، الذي يحتكر الوطنية في ما يحتكره من رأي وسياسة ومال واقتصاد وشبيحة وتعفيش، وزعم أنه يمثل أمة العرب كلها، ويتبنّى تحقيق آمالها وأحلامها في الوحدة والحرية والاشتراكية، فقد أخذ يتحدث على لسان رئيسه بالذات عن المجتمع المتجانس، وأخذ يرفع شعارات مثل: “الوطن لمن يدافع عنه” في وقت يعيث فيه الأجنبي قتلاً وتدميراً وتسلطاً وفساداً بزعم محاربة الإرهاب، والدفاع عن سورية السوريين، ولم يكتف بذلك بل أخذ يصدر التشريعات التي تقونن تنفيذ ذلك الشعار على الأرض، (المرسوم 10).
ويشار إلى أنَّ الانفصال عن الإمبراطورية العثمانية قد أفرز عدة تيارات سياسية: الإسلامي، والقومي بشقيه السوري القومي، والقومي العربي، إضافة إلى التيار الماركسي الأممي، ونمت هذه التيارات وترعرعت، عدة سنوات على الأقل، وتصارعت أيضاً، في ظل حكومات وطنية أتت على نحو طبيعي، بعد الاستقلال الذي ساهمت في صنعه، وقد عملت جهدها على تأسيس دولة وطنية، وترسيخ جذورها بتنميتها على المستويات كافة، وخصوصاً في الجانب الاقتصادي الذي سوف ينعكس إيجاباً على الميادين كافة، ويساهم بالضرورة في تعميق ما يمكن أن يعرف بتكوين مفهوم الهوية السورية، وترسيخه وفق الأسس التي تقوم عليها الدولة المعاصرة التي تحكم مواطنيها على قاعدةٍ من الحقوق، تساوي بين أفراد الوطن الواحد، وترتقي تلك القوانين إلى مستوى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.. لكن ذلك التطور الطبيعي لم يستمر مع كل أسف، إذ قطعه واحد من تلك التيارات الذي أتيح له انتزاع السلطة بقوة السلاح، والتفرُّد بها، ومن ثم عسكرتها.. وهنا، كان مقتل الدولة السورية وهويتها، وقاعدتها الديمقراطية التي تحتضن بواكير التنمية.. إذ لا جامع يجعل العسكرة والتنمية تسيران جنباً إلى جنب، فكيف إذا كانت جذور العسكر تنتمي إلى أصول فلاحية/ إقطاعية لا تزال تفكر بعقلية المختار أو زعيم القبيلة…! فهل تلحظ اللجنة الدستورية المزمع تشكيلها، عبر منسق الشأن السوري في الأمم المتحدة، هذا الأمر تمهيداً لوضع سورية على سكة السلامة، وهل تفسح في المجال لبيان الهوية السورية بحدودها الجغرافية، وبتنوع مواطنيها الموجودين فوق أرضها منذ مئات السنين، بل آلافها؟
المصدر: العربي الجديد