13/ 7 / 2012، كان يوماً ستقتل بعده مرات ومرات.. فلو لم تقتل يومها ومرت الرصاصات الثلاث دون أن تخترق صدرك، لاختلف مشهد موتك الاستثنائي. كنت ستشهد بعد هذا التاريخ بقليل نزوح المخيم الكبير، وسيكون ألم روحك كبيرا، وهنا على الأرجح ستصيبك جلطة قلبية أو سكتة دماغية، بل لو استطاع الأطباء، وعلى ندرتهم الحفاظ على دقات قلبك، وأُعطيت أياما أو سنوات على هذا الكوكب، بعدها ستفكر بالخروج من المخيم للقاء عزيزٍ ما، أو لجلب ربطة من الخبز. هنا سيعتقلك حاجز للقيادة العامة بسبب كنيتك التي تحملها ببطاقتك الشخصية، وسيتم تحويلك لأحد الأفرع الأمنية، التي سيتم تعذيبك فيها حتى تتمنى لو أنك قُتلت من المرة الأولى، أو حتى لو أنك لم تولد أصلا، ولأنك الفلسطيني في (قلعة الصمود والتصدي) لابد أنك تملك خبرة واسعة في هذه المسالخ البشرية..
سينجيك دهاؤك هنا، وستدخل المخيم مجددا (وأعلم أنك ستفعل ) للحفاظ على كرامتك داخل أسوار المخيم، بعيدا عن حكم العصابة المسعورة في دمشق ، مدفوعا بإيمان و أمل، و لو كان الثمن حياتك. ستحاصر لأشهر طويلة جدا جدا على الذاكرة، وستموت جوعا لأن أنفتك و عزة نفسك ستمنعك من الوقوف بطوابير المؤسسات الإغاثية المذلة، أو أن تخرج لاستلام كرتونة الأونروا، فالقناص هناك بالمرصاد أو كلابهم المسعورة من فصائلنا الفلسطينية، لتختفي و يصبح مصيرك مجهولا، وتغدو رقماً إضافياً لقائمة الجوع التي سيحزن عليها “العالم المتحضر”.
حسنا سأعطيك حفنة من الأرز لتتجاوز هذه الميتة التي لا تليق بفلسطيني حر، ولتشهد بعدها التحول في مخيمك وترى من سيعيث فسادا، وينشر خرابا يقوده جهل أو عمالة، فقد يقرر شاباً ما اطلاق الرصاص عليك، لأنك لم تسمح له بقطع كابل الكهرباء الذي يحوي” 5 كيلو غرام ” من النحاس. ويلك إن اعترضت على تخريب منازل حيّك التي هجرَها أهلها مرغمين، يكفيك يا أبي كثرة غلبة، فمع موافقتي لك أن الانتماء للوطن يبدأ بالوعي، لكن الخراب أكبر من هذا بكثير، فالوطن بكامله سيُباع لاحقا إما بتسوية ومصالحات مع القتلة، أو خفض تصعيد أو لا أدري ما الاتفاقات أو المؤامرات التي ستحاك لنا، فانظر لما هو أبعد ودع عنك الميتة هنا.
ستشهد يا والدي اقتتالا داخليا قريبا وقصفا خارجيا لم يتوقف أصلاً، وسينشط خفافيش الظلام اغتيالا في وضح النهار، وستسير الدماء والبسطاء لا يعرفون لم كل هذا الخراب. احذر هنا أن تصيبك رصاصة طائشة غادرة أو قذيفة حاقدة لتنجو بحياتك إلى حين.
ستستمر بمراقبة تلون الرايات المرفوعة في المخيم، فالعلم بالألوان الأربعة الذي ألفته سيحل محله العلم الأخضر إلى أن تسيطر الراية السوداء، وستتعرض يوميا لمواقف مُهينة، كونك لم تقصر إزارك ( بنطالك ) أو لأنك لا تطيل لحيتك، وسيقومون بطردك من منزلك و احتلاله. ربما سيتهمونك بالكفر، وقد تُقتل لأتفه الأسباب، وسينشؤون معتقلات ويسمونها بأرقام تذكّرك يوميا بأفرع المخابرات، وستعذب بها كما نالوا من سياطها أنفسهم. سيتحكمون بأدق تفاصيل حياتك، ويجعلونك تعاني فوق معاناتك، وإلا ستجلد كما الحيوانات، هنا ستلعن الظروف و تخرج عن طورك، وسيطول لسانك كثيرا مما سيغيظهم، ولا تعلم ما هي العواقب بعد، لكني سأراهن على صبرك و حكمتك في هكذا مواقف، تقتضي السير في الرمال المتحركة بحواف الأعصاب.
سيستمر التآمر على وجودك و سيقرر جيرانك في البلدات الملاصقة، و بمساعدة و نذالة بعض المرتزقة من ملّتك من أغراهم المال أو النفوذ إغلاق الحاجز بينك و بينهم، سيرفعون السواتر العالية و يحرمونك ربطة الخبز الجافة التي تشتريها. ستتهم كما كل أبناء المخيم الباقين على قيد الحياة و الأمل “بالدعشنة”، وكأن لا علاقة لهم بإدخالهم لمخيمك، ستعيش يا والدي حصاراً داخل حصار، وسُتهان النساء مرة أخرى و يذلُ الرجال. ستكتشف أن طير الأبابيل القادم من حوران سيكون كذبة من التاريخ، و كيف سيغدو غازيا في جيش أبرهة الأسدي، و هنا لا أعلم صراحة مقدار تحملك للأمر و لكني سأدعو بنجاتك من الموت قهراً.
ستدفعك الظروف القاهرة، لتخرج في رحلة المجهول، وبوصلة النهايات تشير شمالا يومها، و لا أعلم أين سيحط بك الرحال، فقد يكون نصيبك إحدى خيام القهر في الشمال البعيد، لا تقي حر صيف، فكيف تراها ترد الموت بردا في الشتاء المقبل !. إن كان حالك أفضل قليلا فقد تقرر عبور الحدود لبلد جديد تلتقط فيه أنفاسك لمتابعة مشوارك في هذه الحياة، و لكن كن على علم أن عسكريا يحرس الحدود قد يطلق النار عليك فيصيبك في الرأس أو القدم، فحاذر أن تكون منيتك هناك فبظني أنك تستحق ميتة أفضل.
طبعا لن أنسى أنك قد تموت كمداً و قهراً، لرؤية المخيم بكل تفاصيله قد أصبح ركاما وكومة مبعثرة من الذكريات. لا أدري يا أبي كم أغفلت من مصيرك المفترض أو المحتوم، ولكني أعلم أن الحياة ستسير، وربما يطيل الله عمرك، وتقضي حياتك بجانب أحفادك، وتراهم يكبرون رويدا رويدا، و تصنع من نفسك خروفا يمتطونه للعب، و تغني لهم بصوتك العذب الأغاني التي سيحفظونها و تلازم ذكرياتهم.
ستبلغ من العمر عتياً وتمر سنوات طويلة، تحاول بها عبثا أن تحصي ذكرياتك عن شارعك ومنزلك وجيرانك وأصدقائك وطفولتك وشبابك، لحظات فرحك و ترحك وما بينهما.
في النهاية ستموت كما أنا، محاطاً بقلوب دافئة، ويومها سيكون الجو ملائماً فلا حاجة لك لثلج مهرَب يمنع تفسخ جسدك، و لن أضطر لنقل جثمانك عدة مرات، كي لا يستولوا عليه كما فعلوا بروحك أول ميتة.
دافئا هناك على فراش الموت سيعزف لك ولدي” زيد ” الذي تحبه أكثر مني موسيقى الحرب العالمية لبيتهوفن، وسندفنك بخشوع، وأدعو لروحك بسلام ما عرفته يوما، وسأضع شاهدة على قبرك تقول: ” هنا يرقد من قتله الحنين “..
ولدك المُحب على دروب هجرتي الأخيرة .