يتحدث بعض الباحثين السوريين عن كون المواطنة كمفهوم سياسي يتبلور في سياق بناء الدولة الحديثة، وهي لن تترسخ ممارسًة إلا بترسيخها مفهومًا، من خلال ربطها بمفهوم (الحداثة السياسية)، وكل دولة لا يكون فيها المواطنون متساوين في الحقوق والواجبات تظل مهددة في استقرارها واستقلالها، بل تصبح مع الزمن دولة فاشلة.
حول هذه المسألة الشائكة فقد طرحت جيرون ذلك على باحثين وباحثات سوريات لنرى معهم كيف ينظرون في هذه القضية الفكرية وفق هذا الطرح؟ وإلى أي حد يمكن أن تترسخ مسألة المواطنة في سورية؟
الباحث السوري السيد منير شحود قال في هذا الموضوع ” أعتقد أن مواطنة الفرد المستقل الخاضع للقانون، والذي ينوس بين حقوقه وواجباته، هي بالفعل ركن أساس للدولة الحديثة، الدولة التي تقوم على مفاهيم عصرية، وحيث الانتماء الوطني هو الانتماء السيد الذي يغلف باقي انتماءات الفرد ومكونات هويته.” ثم أكد شحود أن ” المواطنة بهذا المعنى هي الغلاف الذي يحمي باقي المكونات ويضبط صراعاتها داخل الفرد نفسه وفي المجتمع. قد تبدو الأنظمة المستبدة أكثر استقرارًا، لكنها تثبت الواقع وتضبطه بالإكراه وسيأتي يوم يتمزق به غلافه، في حين يمكن للعلاقة المرنة المبنية على الحقوق والواجبات لمواطني دولة حديثة أن تتكيف مع الاضطرابات الداخلية وأن تقاوم الضغوط الخارجية، فحتى لو انهارت الدولة الحديثة بفعل هذه الضغوط يمكن أن يعيد المواطنون الأحرار والخاضعين للقانون والمؤمنين بوطنهم بناء دولتهم ومؤسساتها، الأمر الذي تفشل فيه الأنظمة الديكتاتورية في نهاية المطاف. “
أما الباحث السوري منير الخطيب قال لجيرون ” أعتقد أن نقاش هذه المسألة الهامة، من المناسب أن ينطلق من تلك المقولة المهمة للمفكر المغربي عبد الله العروي: (أن العرب والمسلمين لا يملكون نظرية عن الدولة، بل أقصى ما عندهم هو أدلوجة الدولة). نعم لم تتبلور لدى النخب في سورية وغيرها من البلدان العربية نظرية حول الدولة، حيث لا زال النقاش يذهب باتجاه التركيز على صفات الدولة، وليس على ماهيتها ومبادئها العامة، يجري التركيز حالياً، في المنطقة، على إسلامية الدولة أو يهوديتها أو شيعيتها أو عروبيتها، وتحاصر نظرية الدولة ومبادئها من قبل السلطات الحاكمة من جهة، ومن قبل قيعان المجتمع المتأخرة من جهة ثانية. ومن قبل وعي النخب البائس من جهة ثالثة. نعم الدولة هي ذروة من ذرى الحداثة، وقبل الحداثة لم يكن هناك من دول، كان هناك أشكال حكم إمبراطورية بعيدة عن روح الدولة ومضامينها العامة، الخلافة والسلطنة والأمارة هي أشكال حكم إمبراطوري، لا تمت بصلة لمفهوم الدولة. كما أن الدولة كائن خاضع لمنطق التشكل والصيرورة، ليس معطى مسبق، بل يتشكل في التاريخ في سياق تشكل حزمة من الظواهر المرتبطة به وتتشكل معه وبموازاته كمفاهيم الأمة والشعب والمواطنة والمجتمع. كل هذه المفاهيم كوائن خاضعة لمنطق الصيرورة، وكل هذه الكوائن إن لم تبن على مفهوم الإنسان ككائن كلي مكتف بذاته ولا يحتاج إلى شيء من خارج ذاته، فهي قابلة للانتكاس إلى ما قبل عصر الحداثة أو عصر الدولة” وأضاف الخطيب ” الدولة الحديثة لا تهتم بفكرة الأغلبية والأقلية القوميتين أو الدينيتين، ولا حتى الأغلبية والأقلية السياسيتين، الدولة يعنيها المواطن، ومبدأ الدولة العمومي هو مبدأ المقولة القرآنية: (من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا). مبدأ الدولة/ مواطن هو ذات المبدأ (من اعتدى على مواطن كأنه اعتدى على جميع المواطنين). الدولة التي لا تهتم بمواطن واحد مفرد كما تهتم بباقي الشعب ليست بدولة، الدولة التي لا تدافع عن العاهرة كما تدافع عن الراهبة ليست بدولة، الدولة التي لا تدافع عن الملحد كما تدافع عن المؤمن ليست بدولة. والدولة التي لا تنتصر لفرد واحد في مواجهة أمة بأكملها ليست دولة، دستور الدولة يجب أن يغّلب رأي فرد واحد على رأي مجموع الأمة إذا كان ما يطالب به هذا الفرد الواحد لا يتعارض مع الدستور، بصرف النظر عن دينه ومعتقده وقوميته وانتماءه السياسي، لا مواطنة بدون دولة حديثة ولا دولة حديثة بدون مواطنة. الدولة ليست انعكاس ميكانيكي لطوائف المجتمع وأثنياته، الدولة هي سيرورة انتقال معقدة من واقع اختلاف وتعدد المجتمع إلى مجال وحدته في إطار (الدولة- الأمة)، التي تنظر إلى جميع مواطنيها بعين واحدة وبنفس المستوى، بصرف النظر عن انتماءاتهم الهوية”.
أما الباحث السوري نبيل ملحم فأكد لجيرون أنه ” لا يمكن بناء دولة المواطنة من دون بناء الدولة الحديثة وحيث لا يمكن بناء الدولة الحديثة إن كان في سورية أو غيرها إلا وفق الأرضية التالية : ما ميز النظم الاجتماعية السياسية التي عرفت الدولة الحديثة التعددية عن غيرها من النظم الأخرى المعاصرة وحتى القديمة ( ما قبل الرأسمالية ) هو أن مجالات البناء الاجتماعي السياسي والاقتصادي والايديولوجي في النظم الأولى قد تم فصلها ( بالمعنى النسبي طبعًا ) بعضها عن بعض فلم يعد السياسي يختلط مع الايديولوجي أو لنقل لم يعد السياسي يتمظهر فيها بشكل أيديولوجي، كما لم يعد السياسي ملازمًا ولصيقًا بشكل مباشر بالاقتصادي ، في حين إن النظم الأخرى التي عرفها العصر الحديث، إن كان في الاتحاد السوفييتي سابقًا وأوروبا الشرقية والكثير من مجتمعات المستعمرات التي استقلت في بحر القرن العشرين، ثم استقرت فيها السلطة لنظم الاستبداد المعمم قامت على أساس من الالتصاق المباشر بين السياسي والايديولوجي (الشيوعي أو القومي أو الديني فيما بعد ) وعلى أساس من الالتصاق المباشر بين السياسي والاقتصادي كذلك، وهو الأمر الذي يجعلنا نقول عن تلك النظم بأنها كانت تنتمي بالمعنى التاريخي إلى عصور ما قبل الحداثة بالرغم من كل (الزركشات /الأيديولوجيات) التي حكمت باسمها”. ثم قال مؤكدًا ” إن هذه المجتمعات التي وصلت إلى الدولة الحديثة وعبر عملية تطور شاملة قادته البرجوازية وصلت إلى أبنية اجتماعية ناضجة أهم ما ميزها الفصل بين المجالات الثلاثة، بعضها عن بعض، فعلى أساس هذا الفصل تم التأسيس للدولة الحديثة البرجوازية أو ما يسمى دولة المواطنة التي أول من عرفها المجتمعات الأوروبية. على هذا الأساس يمكن القول بأنه في المجتمعات البرجوازية المتأخرة أو التي حاولت تخطي البرجوازية والتي سادت فيها طبقة اجتماعية مالكة للثروة والسلطة والدولة على شكل وهيئة نظم سياسية هي أقرب لهيئة العصابات والمافيات حكمت إن كان باسم الشيوعية أو القومية أو الدين فإن هذه الطبقة المافياوية اللصوصية حيث تشكل الحالة السورية نموذجًا مثاليًا لنوع كهذا من الطبقة / السلطة / الدولة اعتمدت على مراكمة وجمع الثروة من خلال سرقة ما سمته قطاعًا عامًا أو قطاع الدولة، ولأن نهبها لهذا القطاع لا سند حقوقي أو قانوني له فقد استدعى هذا بالضرورة استحضار أشكال الحكم ما قبل الحديثة، وبما يعني أنه استوجب إعادة إلصاق الايديولوجي بالسياسي أو لنقل جعل الايديولوجي ملازمًا للسياسي كما إلصاق السياسي بالاقتصادي أو لنقل ملازمًا له .” وتابع يقول ” في هكذا شروط فإن أمل العبور بعد إسقاط هذه النظم والطبقة المافياوية كما في حالتنا السورية إلى الدولة الحديثة والتعددية وفي شروط عجز الطبقة المالكة للثروة التي تكونت من خلال الرضاعة من حليب الاستبداد والفساد فإن القدرة على فصل ما هو سياسي عما هو اقتصادي أو ايديولوجي ( إن كان وضعي أو ديني ) يقتضي ضرورة تشكيل كتلة تاريخية لها مصلحة في هذا الفصل الذي بدونه لا يمكن الوصول إلى الدولة الحديثة وبما يعني تشكيل كتلة تاريخية متعددة طبقيًا ومتعددة اجتماعيًا ومتعددة سياسيًا ومتعددة ثقافيًا ومتعددة ايديولوجيا كما ينبغي أن تكون متحركة الحدود والسعة وبما يعني أن هذه الكتلة التاريخية تتسع ومفتوحة لكل من يؤمنوا بما يلي أولًا : بالفصل بين كيان الدولة بوصفه كيانا عامًا ثابتًا بالمعنى النسبي وكيان السلطة بوصفه كيانًا خاصًا متبدلاً تداوليًا أي في العمق الفصل بين أداة السيطرة العامة وأداة الهيمنة الخاصة، وبما يعني عدم فرض ايديولوجية السلطة أيًا تكن هذه الايديولوجيا على الدولة والمجتمع، وثانيًا : عدم السماح بأن تصبح قوة الدولة الاقتصادية والسياسية أقوى من طبقات المجتمع كله، وبما يعني أن يبقى حدًا من التوازن بين قوة الدولة وقوة المجتمع المدني بالمعنى الواسع لهذا المجتمع أي المجتمع المكون من كل القوى الطبقية والاجتماعية والسياسية والايديولوجية المستقلة عن الدولة والسلطة وثالثًا : أن يعاد بناء الدولة ومؤسساتها القانونية والدستورية الاقتصادية والسياسية والعسكرية على أساس عقد اجتماعي تعددي تشاركي يكون جوهره نقل أفراد المجتمع من حالة الرعايا أو الرعاع إلى حالة المواطنين الذين يمتلكون الحقوق وعليهم الواجبات. رابعًا: القطع مع كل أشكال المحاصصة السياسية الطائفية أو القبلية والعشائرية إن كان بالمعنى الدستوري أو كتقاليد وأعراف سياسية”.
الباحثة السورية لمى قنوت ترى أن ” ترسيخ مفهوم المواطنة يبدأ بالإرادة السياسية لبناء الدولة الحديثة، فالمواطنة ترتكز على حق الفرد في الحرية والمساواة والتشاركية السياسية والاقتصادية والثقافية والمجتمعية، وهي عقد سياسي اجتماعي بين المواطنين، نساءً ورجالاً، وبين المواطنين/ات والسلطة السياسية بغض النظر عن شخوصها، وعلاقة المواطنين/ات بالبيئة.
في سورية، يُشكل الانتقال السياسي في سورية والعدالة الانتقالية، فرصة للعبور نحو دولة المواطنة التي لا تقبل قيمها التجزئة، ونحت معالم المسار الانتقالي نحو الديمقراطية للنهوض بسورية. وبقدر ما تقع قضايا المرأة حجر أساس في نهضة المجتمع، لا يُساورنا أي شك بأن هذه القضايا بالذات تخضع لترحيلٍ ومساومات تحت مسميات الخصوصية الثقافية وإدارة المقدس الخاضع للهيمنة الذكورية في إصرارٍ وعناد أن نحيا كنساء في فضاء ذكوري مُصَمَمٍ على الاضطهاد والإخضاع يرغِمنا على العيش خارج الزمن وكأنّه قضاء محتوم.” ثم أكدت أنه
” تترسخ المواطنة في القوانين ودستور البلاد، والنص بشكل واضح على المساواة الجوهرية بوصفها مبدأ دستوريًا، وفي مساواة المرأة والرجل في القانون وأمام القانون، وأمام القضاء، وفي تضمين الحقوق والحريات الفردية، وفصل السلطات، وتأمين الأساس القانوني للحماية القضائية من سوء استخدام السلطة وانتهاك الحقوق، وأن يكون الدستور علمانيًا ينص على الفصل بين الدين والدولة، بحيث تكون المؤسستان السياسية والتشريعية مستقلتين تمامًا عن المؤسسة الدينية، مع ضمان حرية العقيدة وممارسة الشعائر الدينية، وأن تسمو جميع المعاهدات والاتفاقات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، التي تصادق عليها الدولة، على القوانين الوطنية، وينبغي مواءمة الدستور والتشريعات الوطنية لتتوافق مع الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والاتفاقيات الدولية، وخاصة اتفاقية سيداو وضمان رفع جميع التحفظات بدون شروط والتصديق على البروتوكول الاختياري الملحق بها.
وأن يحظر الدستور التمييز المباشر وغير المباشر على أساس الجندر، وفقًا للقانون الدولي، ولا سيما اتفاقية CEDAW.وينص الدستور على أن تتخذ الدولة التدابير الكفيلة بالقضاء على العنف ضد المرأة بكل أشكاله، وحماية ضحايا العنف على أساس الجندر. وينص أيضاً على إنشاء هيئات دستورية معنية تحديدًا بتحقيق المساواة الجندرية، شرط أن تكون مستقلة وتتمتع بالصلاحيات والإمكانيات. وتترسخ المواطنة أيضًا في التعليم والثقافة والإعلام.” وأضافت قنوت
” صحيح أن الانتقال السياسي وإطلاق مسار العدالة الانتقالية هو المسار الوحيد لإعادة بناء سورية على أساس المواطنة، لكنه لا يكفي لتفكيك بُنى الاستبداد في الدولة العميقة، إلا إذا حرمنا قانونيًا السُلط السياسية والدينية من استخدام العنف المُنتج للتمييز كأداة للإخضاع، فنحت بناء المسار الانتقالي نحو الديمقراطية ودولة المواطنة طريقه طويل ولا يصنعه إلا نساء ورجال أحرار.”
المصدر: جيرون