كثيراً ما يصعد إلى مخيالي، الشعر الجميل الذي قاله الشاعر السوري عمر أبو ريشة، في لحظة مهمة من لحظات واقعنا السوري، وهذا الشعر، وهذه الأبيات، النابعة من معاناة وآلام، عاشها أبو ريشة، وعاشتها أمته معه.. نجدها اليوم تتماهى مع ما نعانيه، ونقاسيه، ونعيشه، لحظة بلحظة، وهنيهة، تلو هنيهة، ففي الوقت الذي نرى فيه دماء السوريين مهدورة في كل مكان، وعيون الأطفال شاخصة الى السماء، وأصوات الأمهات تشق عنان السماء، ورائحة الدم، واللحم، والشجر المحروق، وغبار المنازل المهدمة فوق رؤوس ساكنيها، وأصوات “الله أكبر ” تعلوا المآذن والحناجر، وأهازيج الموت، والثكالى، تلاقح الفكر النخبوي، المنفلت من عقاله، نرى كل ذلك وأكثر منه، بينما تتموضع أمام أعيننا، هذه الأبيات المؤثرة للشاعر عمر أبو ريشة وهو يقول:
رب وا معتصماه انطلقت ملء أفواه البنات اليتم
لا مست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
لا يلام الذئب في عدوانه إنْ يكُ الراعي عدو الغنم
والحقيقة فإن المعتصم في حينها وعندما لبى النداء، وهب لنجدة امرأة عربية، كان الزمان زمان آخر، والفكر فكر آخر، والسياسة سياسة أخرى.
ومع ذلك فإننا نقول: ألم تحفز هذه الملحمة التاريخية التي يصنعها الأبطال والشرفاء، من شعب سورية العظيم، بأجسادهم الطاهرة، وهذا الشلال الهادر من الدماء، نحو العلو، والسمو.. ألا تحفز هذه الحالة الملحمية، بعضاً من بعضِ، قيادات العالم العربي، والإسلامي، وقادة الاقتصاد، والفكر العربي، الذين يرون ما يرون، بأم أعينهم، وعلى شاشات التلفاز صباح مساء، وفي دواخل منازلهم..
ألا يحفزهم ذلك على الانتفاض، ضد الأوامر الخارجية، التي مازالت تصوب، باتجاه ترك الشعب السوري، يلاقي ما يلاقيه، بصدره العاري، دون وقفة ولو سياسية، دولية ودبلوماسية حقيقية، مع هذا الشعب الغارق في دمه.. ونحن هنا لا ندعو- بالتأكيد- إلى تدخل دولي احتلالي، “كولونيالي” جديد في سوريا، لأننا نعرف ما آلت إليه أحوال التدخل السافر في كل من ليبيا والعراق، وسواهما.. وما آل إليه تدخل إيران وروسيا في الجغرافيا السورية، لكن موقفاً عربياً دولياً صائباً صادقاً، يثمر ويغني من جوع أحياناً، بحاجته الشعب السوري، الذي يعض على النواجز، شاهراً قلبه، وعقله، ودموعه، ودمه، في مواجهة السيف القاتل الغادر.. ألا يستحق الشعب السوري البطل، من أقصاه الى أقصاه، وبكل تلاوينه الرائعة، وقفة حقيقية تنقذه من الموت المستمر والأعمى.. وهو ما يزال يعض على الجرح، ويرفض التدخل الخارجي الاحتلالي، كما يرفض اندفاعات التفجير الطائفي، والمدفوع به يومياً من قبل النظام المجرم ومن معه من ميليشيات طائفية، ليكون ملاذاً بائساً، وهالكاً لكل محددات الشعب السوري، المتحاب، والمتصالح مع نفسه وذاته.
ألا يستحق هذا الشعب العظيم، من قادة للمعارضة مازالوا يغرقون في خلافاتهم، وحساباتهم البائسة، دون النظر إلى مآلات سوريا، التي يفترض أنهم جميعاً، وبلا استثناء، قد أحبوها، حرة موحدة، بكل أثنياتها، وطوائفها، وأقلياتها.
ألا يستحق الشعب السوري، من قاده الفكر النخبوي، في الوطن السوري والعربي، وقفة رجل واحد، يهب لنجدة الوطن السوري.
ولأن الدم حرام بين الأهل والأهل، ولأن العدو الصهيوني ما يزال يحتل الأرض، ويغرق ويمعن في استباحته للجولان وفلسطين. فان قطرة دم واحدة تسفك في غير موضعها حرام.. حرام.
الدم السوري السوري حرام، والاحتراب والاقتتال السوري السوري حرام.. حرام.. والفتنة الطائفية خط أحمر، لا يجب أن ينزلق إليها، كل ذي نظرة ثاقبة، وكل ذي عقل ووعي. فهناك من ينتظرنا، بل يدفع بنا إلى مآلاتها، التي لا يعرف إلا الله إلى أين يمكن أن تودي بالبلاد والعباد.
أما هؤلاء الذين يجلسون بأبراجهم العاجية، ويطلقون تصريحاتهم، الهميونية، المنفلتة من كل عقال.. وصولاً الى حالة سورية لا يحمد عقباها.. هؤلاء يجب عليهم أن يتقوا الله في شعبهم، ويتقوا الله في عروبتهم، واسلامهم وسوريتهم.. فما يزال الطريق مفتوحاً نحو عقلنة للسياسة، ووعي مطابق للواقع، دون التخلي عن مطالب الشعب، الذي قام بثورته، لينال حريته، ويباشر مرحلة، من مراحل تاريخية خالية من العسف والهدر، والقتل، والتعذيب.. مرحلة خالية من الفساد والإفساد، ومن كل محسوبيات، وهدر للأموال.. وللبلاد.. وإذا كان ما يزال صوت عمر أبو ريشة، يهدر فينا ومعنا.. فان المعتصم السوري لا بد قادم.. ورب وا معتصماه، تلاقي السمع والبصر.. وأمام ما جرى، ويجري لشعبنا، فان ملاذه ومعتصمه، منه وفيه، ولن تستطيع آلة البطش، والقمع، والنهب، والسحل الأسدي، أن تلغي حالة الثورة المستمرة، والمنتصرة، لا شك في ذلك، إن شاء الله، وعوا ذلك أم لم يعوه.