تقول القاعدة إن ما بني على باطل فهو باطل.. كما أن أيَّ عمل يبدأ بخطوة خاطئة لن يقود، في النهاية، إلا إلى كم متراكمٍ من الأخطاء، وهذا ما فعلته الدبلوماسية الروسية في سورية، إذ أوهمت نفسها، قبل الآخرين، بأنها إذا ما تجاوزت مسار جنيف الذي رفضه النظام، فإن أيَّ مسارٍ آخر، مع القوة الرادعة كفيلٌ بالنجاح، وبحل أية مشكلة، مهما بلغت تعقيداتها، ولديها من تجربتها الشيشانية في غروزني مثال قريب.. فمنذ نحو ألف وسبعين يوماً، هرع بشّار الأسد نحو موسكو ليضع يده في حزام فلاديمير بوتين، يرجوه إنقاذ كرسيه الآخذ في الاهتزاز، والمنذر بالسقوط. وكان أن تبيّن لبشّار أن الأحزمة التي استعان بها منذ 2011 وحتى سبتمبر/ أيلول 2015 رخوة، لا يشدّ بها ظهر، ولا تستر وجهاً ولا قفاً.. ولدى الرفيق بوتين نخوة المياه الدافئة، ولهفة إشراقات الشموس الشرق أوسطية، فاستجاب لـطلبه من دون أيِّ تردّد..
وهكذا عاد بشّار من عند الرفيق بوتين مشدود الظّهر والحزام، وليتوعد شعبه السوري بما هو أسوأ من البراميل المتفجّرة، وبالفعل جاء الروس بطائراتهم وصواريخهم، وبكل ما لديهم من أدوات القتل والتدمير والتهجير. وليوجهوا رسالةً إلى عالم الكبار أجمعين، تفيد بأن روسيا لا تزال قوية، وأن لها مصالح استراتيجية: قديمة جديدة.. منها ما هو اقتصادي، ومنها ما يتعلق بالقاعدة العسكرية التابعة للبحرية الروسية في مدينة طرطوس. وهي قلقةٌ من تنامي خطر استهداف الإسلاميين الشيشان لها انتقاماً منها إذ أحالت عاصمتهم، ذات يوم، إلى تراب.. إضافة إلى أنها تودّ صرف نظر الشعب الروسي عن أوضاعه الاجتماعية الصعبة. ولعلها، أيضاً، تأمل في العمل على تجريب أسلحةٍ جديدةٍ، فتنفتح أمامها أسواق جديدة تدعم اقتصادها الآخذ في التدهور، بعد أن توارثته مافيات النفط والغاز وغيرهما، ومن ضمن تلك المافيات بوتين نفسه.
وهكذا بدأت روسيا فعلها التدميري لكل ما هو حيٍّ على الأرض السورية أمام صمت العالم
وانتظاره المريبيْن.. إلا من بعض البيانات الدولية الخجولة التي يلتف عليها الفيتو الروسي عند الضرورة. وقد تناولت تقارير كثيرة حجم الخسائر البشرية السورية، وخصوصا بين المدنيين، ومنها المرصد السوري لحقوق الإنسان الذي أفاد بأنه قد سقط 13854 قتيلاً منذ بدء التدخل العسكري الروسي لصالح الأسد في 30 سبتمبر/ أيلول عام 2015 وعلى مدى عامين، وهم بين مواطنين مدنيين، ومقاتلين من الفصائل الإسلامية، ومن هؤلاء القتلى الذين ذكرهم المرصد السوري، وجد 1399 طفلاً دون سن 18، و825 امرأة بالغة، و3479 رجلاً وفتىً، و4258 عنصراً تابعاً لتنظيم داعش. وإذا ما أضفنا نسبة القتل نفسها خلال العام 2018، يكون عدد من قتلهم الروس وحدهم نحو 21 ألف مواطن سوري بين رجل وامرأة وطفل.
وفي مقابل ذلك، تفيد تقارير بأن روسيا تمكّنت من جني ثمار استراتيجية جرّاء دعمها نظام الأسد، عسكرياً، فوقّعت “اتفاقيتين لإقامة قاعدتين على (البحر) المتوسط، جوية في مطار حميميم وبحرية في طرطوس”. وتنص الاتفاقيتان على بقاء القوات الروسية نصف قرن قابلة للتمديد.. وتؤكد التقارير نفسها أن روسيا استطاعت في عمليتها العسكرية في سورية “تجربة أنواع جديدة من أسلحتها في ظل ظروف حربٍ حقيقية”. ويقدّر عدد أنواع الأسلحة الجديدة المجرّبة بين 162 و200 نوع!
غيّر التدخل الروسي، على الرغم من الدم والخراب السوريين، كثيرا من موازين القوى على الأرض، إن لم نقل قد قلبها، ونال بوتين لقب القيصر الذي يطمح إليه، بينما يراقب الغرب الأمور عن كثب، وإسرائيل وأميركا سعيدتان لتدمير سورية.. ووحدهم الروس يتقلبون في مقلاة جرائمهم، وفي بحثهم الدؤوب عن حلٍّ ما، وعن أسلوبٍ لترجمة ما أحرزوه من “نصر” إلى وقائع سياسية.. وقائع تُرضي السوريين الذين كانوا يعانون قمع حاكمهم وفساد حاشيته
فحسب، فصاروا يعانون فقدان الأمن، وأحزان الموت، والخوف من المستقبل، وقلق التشرّد والفقر والتشتت الاجتماعي والنفسي! ومن جهة ثانية، خرج عليهم الغرب عموماً، والأميركان خصوصاً، وقد ارتدوا عباءة الوجع الإنساني، وقلق السلم العالمي، والاحتكام للشرعية الدولية، ومؤتمر جنيف.. ورفعوا الشارة الحمراء أمام استخدام السلاح الكيميائي من جديد.. وهنا بيت القصيد، وعقدة أيِّ حل، فما الحرب، في نهاية المطاف، إلا استمرار للسياسة بأساليب أخرى. إذاً ما الفائدة التي جناها الروس غير أن دمّروا سورية كلها، وهم الذين، أكثر من غيرهم، يدركون، إن كانوا منصفين، أن جوهر المشكلة في سورية ليس الإرهاب، إذ إنه طارئ، وهو الابن الشرعي للفيتو الأول الذي اتخذه الروس، ترسيخاً لمصالحهم، وتقوية لحليفهم بشار الأسد، بعد أن كان جنرالاته قد نصحوه، في بداية الاحتجاجات الشعبية عام 2011، بالتصالح مع شعبه، وتلبية مطالبه المحقّة سبيلاً للتهدئة.. لكنه أبى واستكبر، ولم يسلك غير طريق أبيه وعمه وخاله وخالته، ومن هم على شاكلتهم.
عين العالم اليوم كله على إدلب التي رحَّل الروس إليها كل مشكلات حلولهم الخلبية. وفي إدلب اليوم تكثيف لكل ما ارتكب بحق السوريين من جرائم، والروس اليوم في ورطةٍ لا يُحسدون عليها، فقد أنفقوا وأهدروا وباعوا واشتروا، لكنهم في الغنيمة غير منفردين. أما النظام السوري الذي لا يريد أن يتنازل للشعب عن قيراطٍ واحد مما ورثه عن أبيه، فورطته أكبر وجرمه أعظم. وأبسط ما يكتشفه اليوم أنَّ الثوب المستعار لا يدفئ الجسد على المدى الطويل. وما الهروب إلى الأمام بمجازر جديدة إلا كشف للعورات، وبيانٌ لحال البؤس الذي تفضحه إسرائيل يومياً. وليس هو، على كل حال، بنافع مع التحذيرات الغربية والأميركية التي تلامس الجدّية، لا من أجل السلاح الكيميائي فحسب، بل من أجل الذبيحة، وكثرة السكاكين.. اليوم لا سبيل أمام الروس غير بيان جنيف 1 وقرار مجلس الأمن 2254، فلعلَّ السكاكين اللئيمة تنزع من جسد سورية وروح السوريين تباعاً.. وأولها سكّين النظام المثلَّمة، فهل يعقل بوتين ويعمل على تجاوز العقدة، أم أنَّ العقدة ستضحك منه؟
المصدر: العربي الجديد