لا شيء يثير الدهشة في تغير المواقف مع تناقض المصالح واضطراب الرؤية للحل في سوريا في المجتمع الدولي، والاندراج السهل للمعارضة الرسمية في خطاب الدول الفاعلة، فالجميع يعمل لمصالحه وبطبيعة المصالح أنها تتعارض وتتناقض حسب كل طرف، لكن ما لا ينبغي أن يقبل التغيير والتعديل هو موقف المعارضة من نظام الأسد، الذي لم يسلم هو الآخر من التعديل والتغيير حسب المناخ الدولي والإقليمي.
روسيا نجحت في فرض مسار سياسي يقوض جنيف 1 من أساسه، ربما لا حاجة للتذكير بما فعلته روسيا على مدى السنوات الثمان من إعاقة أي تقدم في الحل السياسي في مفاوضات جنيف، بدءاً من الدعم الفائق للنظام في مجلس الأمن، مروراً بإعادة تأويل بيان جنيف1 عبر القرار 2254، ثم عبر تقزيم الحل إلى لجنة دستورية هدفها “إصلاحات دستورية” تنطلق من دستور الأسد 2012 وتنتهي بانتخابات غير مشروطة دون أي تغيير في بنية النظام وتوفير “بيئة آمنة” للانتخابات بغطاء شرعي من الأمم المتحدة ورضى الطرف الرسمي من المعارضة (هيئة التفاوض السورية) بعدما غيرت في تركيبتها ذاتها وأجبرتها على إدخال موالين لروسيا وموالين للنظام في بنيتها مناهضين للثورة ذاتها في مفارقة تاريخية لا تكاد تصدق. مصالح روسيا مفهومة، وهي باتت مرتبطة جوهرياً ببقاء نظام الأسد بعدما ارتكبت كل تلك الفظائع لحمايته، وبوقاحة منقطعة النظير استثمر بوتين كتلك الفظائع كتجريب للسلاح الروسي في اللحم السوري الحي وعرضه في الأسواق العالمية، لا شيء يعدل هذا المستوى من الانحطاط والإجرام والإهانة التي لم يرد عليها أحد إلى الآن.
لكن الدول “الصديقة” للمعارضة السورية، بدل أن تواجه الاستفراد الروسي في رسم الحل السياسي ضغطت على المعارضة للقبول به وإجراء تنازل تلو الآخر حتى تندرج كليا في المسار، ووجدت في تغيير بنية المعارضة والطامحين فيها ما يلبي هذه “الواقعية” الطريفة، ليكون هؤلاء الواقعيون هم المناسبون لتلبية توجهات الدول ومتطلباتها ومواقفها في الحل السياسي.
في 14 من أيلول/سبتمبر سربت نسخة من بيان “مبادئ الحل السياسي في سوريا” لـ “مجموعة سوريا المصغرة”، وهو، كما أشرنا في المقال السابق (عن مبادئ SSG 15 أيلول/سبتمبر 2018)، نسخة معدلة عن “لا ورقة تيلرسون”، وهي تخلو من أي إشارة إلى الانتقال السياسي، كما لو أن الأمر بات مسلما فيه من قبل الجميع، وهو أمر يؤكده الكلام الصريح للمبعوث الأمريكي للمعارضة السورية (جيمس جيفيري) لصحيفة الشرق الأوسط (26 أيلول/سبتمبر 2018): “الحل السياسي لسوريا يتطلب مراجعة دستور جديد، وتحقيق الأمن، وإجراء انتخابات … لا يوجد هدف أميركي بإزاحة الأسد. سنكون سعداء إذا رحل وأعلن رحيله من تلقاء نفسه؛ لكن هذا ليس هدفنا، فالهدف لدينا هو ظهور سوريا مختلفة لا تهدد شعبها أو جيرانها، ولا تستخدم السلاح الكيماوي، ولا تطرد اللاجئين والنازحين إلى خارج أراضيها، ولا توفر لإيران منصة لإطلاق الصواريخ ضد إسرائيل. وأيضا من أهدافنا محاسبة أولئك الذين ارتكبوا جرائم حرب. مصير الأسد أمر يقرره السوريون، وإذا استطاع الأسد قيادة سوريا في هذا الاتجاه فهو أمر ربما يأخذه السوريون في الاعتبار”!
هكذا إذا الهدف صار هو تعديل سلوك نظام، والقبول بالأسد إذا كان يلبي هذا التغيير المطلوب، وهو أمر يطلب أن تقوم اللجنة الدستورية برسم معالمه النظرية والقانونية، ولهذا السبب فإن الولايات المتحدة و”أصدقاءنا” في المجموعة المصغرة العجيبة يرون ضرورة “تشكيل اللجنة لوضع الدستور.. ويطالبون المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا بالقيام بتشكيل اللجنة في أسرع وقت، بحلول الحادي والثلاثين من أكتوبر (تشرين الأول). ” على حد قول جيفري في المقابلة المذكورة.
في الوثيقة المسربة (وهي ما تزال موضع خلاف بين أعضاء المجموعة ذاتها) المذكورة أعلاه تقول المجموعة المصغرة إنها تدعم تشكيل اللجنة الدستورية بإشراف الأمم المتحدة، من “القوى السياسية السورية اللازمة لتنفيذ الإصلاح الدستوري وإجراء انتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة”، مفردة اللازمة هنا تعني بالضبط ميليشيا قسد وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي PYD.
وأمس (27-09-2018) صدر بيان عن المجموعة المصغرة حول اللجنة الدستورية يدعو إلى “المضي قدماً في السعي إلى حلّ سياسي يتماشى مع قرار مجلس الأمن رقم 2254 بات أمرا حتمياً” وأنه لتحقيق هذه الغاية، “تدعو الأمم المتّحدة ومكتب المبعوث الخاص لسوريا إلى عقد لجنة دستورية ذات مصداقية وشاملة، في أسرع وقت ممكن، لكي تبدأ العمل في صياغة دستور سوري جديد وتضع الأسس من أجل إجراء انتخابات حرّة ونزيهة تحت إشراف الأمم المتحدة في بيئة آمنة ومحايدة يتمتع فيها جميع السوريين المؤهلين – بمن في ذلك الموجودين في المهجر – بالحق في المشاركة” وتحث “المبعوث الأممي الخاص لسوريا (ستيفان دي مستورا) على تقديم تقرير إلى مجلس الأمن حول مدى تقدّمه في موعد لا يتجاوز 31 تشرين الأول/أكتوبر.”
تصب الرؤية المتضمنة في هذه الوثيقة في وضع مبدأ “الانتقال السياسي” طي النسيان، والشيء المثير في هذه الوثيقة الجديدة هي العبارة التي وردت في وصف اللجنة التي يجب على ديمستورا العمل على تشكيلها وهي”لجنة دستورية ذات مصداقية وشاملة”، أين قرأنا هذه العبارة من قبل؟ في بيان جنيف1 ذكرت “المبادئ والخطوط التوجيهية” للقيام بعملية انتقال السياسي في سوريا أنها يجب أن تكون “ذات مصداقية” (البند 7)، وأن “تتيح منظوراً مستقبلياً يتشاطره الجميع” في سوريا.
وفي بيان مجلس الأمن 2254 يشار (في البند 4) إلى أن العملية السياسية يجب أن تفضي إلى “حكم ذي مصداقية يشمل الجميع” ناتج عن “تسوية سياسية دائمة” تهدف إلى تحقيق “انتقال سياسي” وفقاً لبيان جنيف1. معنى هذا أنه تم إحلال “اللجنة الدستورية” محل “الانتقال السياسي” ذاته، والنظر إلى دور اللجنة على أنه يمثل الحل السياسي مختصرا بانتخابات تشرف عليها الأمم المتحدة في “بيئة آمنة”! لا أحد يعرف كيف ستكون آمنة مع وجود أجهزة أمنية متوحشة وميليشيات إيرانية طائفية، ورغبة روسية قوية لإعادة إنتاج النظام.
وكيف يمكن لهذه اللجنة أن تكون ذات مصداقية إذا كانت بإشراف روسي وإيراني؟ إذا تجاوزنا مشكلة قائمة المعارضة التي يغلب عليها مقربين من روسيا، فإنهم يريدون قائمة موالية وغير محايدة في القائمة الثالثة المتعلقة بالمجتمع المدني، أي تحويل أغلبية اللجنة إلى موالين، كيف يمكن أن ينتج هذا لجنة ذات مصداقية وشاملة؟ القائمة الثالثة الآن صارت هي محل النزاع في اللجنة الدستورية، النظام والإيرانيون والروس لا يردونها محايدة باختصار، ولا يبدو أن أحداً يريد التدخل لتغيير ذلك.
إذا أنتجت اللجنة دستوراً لا يتمتع بالمصداقية أو حتى متمتعا بالمصداقية وأعيد إنتاج النظام من خلالها فلن يؤدي ذلك إلى حل دائم، سيحول سوريا إلى برميل بارود ويحدث نتائج أفظع مما حدث من قبل، فـ”لو كنتُ محكوماً من قبل طغاة يستهدفون السكان العرب السنة على وجه الخصوص، وإذا كان المجتمع الدولي يشعر أنه من واجبه الرد على ذلك [ولا يفعل]، تماما كما فعلنا في العام 2012 و2013، تحصل على تنظيم القاعدة بنسخته 2,0 والذي يسمى داعش، أو على تنظيم القاعدة بنسخته 3,0 والذي سيطلق عليه اسم ابن داعش… إذا أرادوا [الروس والإيرانيون) ذلك الشخص [بشار]، سيكون من الصعب علينا إقناعهم بعدم توليه الحكم، ولكن توليه لحكم سيتصاحب بتكلفة كبيرة” (جيمس جيفري في لقاء صحفي 27-09-2018).
المصدر: تلفزيون سوريا