طوى العام 2018 وقائع عربية دامية ومؤلمة، وعلى أبواب العام 2019 ينتصب إرثها الثقيل أمامنا في غير قضية ومكان. في سورية التي أصبحت مؤشرنا العربي الصارخ على أحوال أوطاننا، لازالت مآسيها ونكباتها على يد نظام الإبادة والدول الحليفة له؛ والتي تغطي احتلالاتها بشرعيته الزائفة، الصورة النازفة بلا هوادة بشتى أنواع الاستباحة والموت. لم يعد من مساحات للحديث الجدي عن قرار سوري مستقل، فقد طغت صراعات الدول النافذة في القضية السورية، وتفاهماتها حول مصالح ونفوذ كلٍ منها، على مسار التغيير الوطني الذي شق السوريون طريقه قبل ثمانية أعوام، ووقفت في وجههم مصاعب وتحديّات ذاتية وموضوعية، أدت إلى انزياحه عن بوصلة الحرية والخلاص، رغم كل التضحيات الجسيمة والأوجاع الرهيبة. أمام طوفان التهجير القسري الذي طبع محطات العام المنصرم، تضاعفت مأساة المعتقلين والمغيبين قسرياً، وتحولت عودة اللاجئين إلى بلدهم، بمثابة بازار مفتوح بين الدول للمتاجرة بمأساتهم المفتوحة، في حين باتت محاولات إعادة تأهيل نظام خطف الدولة واستعباد الشعب، أكثر وضوحاً ووقاحةً مع استرخاص معاناة السوريين وطعن قضيتهم وتجاهل حقوقهم.
كثيرة هي الأحداث والصدمات التي جعلت من عام 2018 أكثر قسوةً من الأعوام التي سبقت، ويكفي أن نذكر أيامه الأخيرة، وقد استحالت بعواصفها وثلوجها وبردها القارس، حياة المشردين في مخيمات البؤس إلى جحيم يفتك عظام الأطفال ويطحن أجسادهم الغضة. في مقابل تلك الحقائق المهولة التي كشفت حجم الترابط بين مافيا الأسد ومعسكر الاستبداد العربي، ومصالح دول الهيمنة والنهب في تجديد التفويض لأنظمة القمع والفساد العربية، تبدّى يتم الثورة السورية في أجلى تعابيره، وحجم التخلي والتنكر لها، حتى من بعض من ركبوا قاربها، وحين عصفت به الأمواج العاتية، قفزوا منه عائدين إلى حضن الذل والعبودية.
كان عام 2018 الاختبار الأكبر للثورة نفسها، قبل أن يكون ترمومتر لمواقف من يدَعون صداقة الشعب السوري. إذ تساقطت أقنعة عن وجوه وأصوات، تغيرت مواقفها وولاءاتها حسب اتجاهات الريح الدولية والإقليمية. انكفأت أيضاً مؤسسات المعارضة التمثيلية إلى درجة الاضمحلال، إذ لم يكن لديها رؤى وبرامج عملية، لمواجهة التحولات الكبيرة التي واجهت الثورة طيلة السنوات الماضية. رغم سيولة التنظير النقدي حول مجريات تلك التحولات وتداعياتها، لم تتقدم مبادرات سياسية جديّة للتعامل معها، وملء الفراغ الناجم عن عجز المعارضة وأطرها القائمة. الظاهرة التي عبّرت عن هذا الفوات في التقاط لحظة الفرز المطلوبة، وكشفت حالة الارتباك في المشهد الثوري، تمثلت في فوضى وتشتت الأفكار والاتجاهات والمراجعات. ما ترك الحبل على الغارب دون إجابات مطلوبة عن أسئلة ذات طابع مصيري. من أبرزها كيفية الدفاع عن الوطنية السورية، التي تناوبت السلطة الأسدية المجرمة على تفكيكها وتفتيتها، مع قوى الاحتلال والهيمنة الخارجية؟ وهل بالإمكان إنجاز مهام الثورة وتحقيق أهدافها، دون مشروع وطني يدافع عن الهوية السورية ووحدة الأرض والشعب!؟
غياب الإجابات الحية والفاعلة على تلك الأسئلة، ينبئ باستمرار حالة الضياع والارتباك، والتي ستكون تداعياتها في العام 2019، أكثر ضرراً على الوطن السوري وعلى أبنائه جميعاً. لاسيما أن منعكسات قرار الانسحاب الأمريكي من سوريا، والصراع على المحاصصة بين الدول المتدخلة، وافتقاد إرادة دولية تسعى لحل سياسي يحقق عدالة القضية السورية. كل ذلك وغيره يفرض كأولوية وطنية أن تتلاقى إرادة السوريين الأحرار على بناء حوامل سياسية، تشكل العمود الفقري لبناء حركة وطنية سورية، تحمل على عاتقها مهام استعادة القرار السوري المسلوب، ومواصلة معركة التغيير الوطني، ومهامها الواجبة في إسقاط العصبة الحاكمة، وتفكيك كافة أشكال الاستبداد والتطرف.
إن التلازم بين الدفاع عن الوطنية السورية، وتحقيق تطلعات السوريين المشروعة في نيل الحرية والخلاص، هي المسألة الجوهرية التي لم يعد ممكناً التلكؤ في الاستجابة لمستحقاتها السورية الملحة. بيدَ أن التصدي لهذه المهمة الكبيرة، يستوجب القطع مع منطق الرهان والارتهان للقوى الخارجية، وقد ثبت فشله وضرره على كافة جوانب القضية السورية، ولعلّ انكشاف ظهر قوات (قسد)، بمجرد إعلان ترامب عن الانسحاب الأميركي من سورية، لهو أكبر مثال على دور هذا التنظيم المُرتهن بيد داعميه ومشغليه، في الإساءة للعلاقة الكردية- العربية، وفي عرقلة جهود التوافق الوطني السوري، على مشروع إنقاذي يحمي كافة السوريين بمختلف مكوناتهم. وينسحب هذا المثال وتجربته الفاشلة، على كافة الأدوات الوظيفية الأخرى في الساحة السورية، وفي مقدمتها العصابة التي اغتصبت السلطة في سورية وفرّطت بسيادتها ومقدراتها، من أجل بقائها على أنقاض سوريا المدمرة.
إن المخاطر التي تراكمت في روزنامة العام 2018، تشير إلى مستويات غير مسبوقة من تهديد الكيان السوري، وتجريف ما تبقى من قدرة السوريين على الصمود، ودفعهم للتخلي عن حقوقهم وتطلعاتهم، في ظل واقع دولي لا يكف عن إحلال منطق القوة وشريعة الأقوياء، على حساب حق الشعوب الضعيفة والمظلومة في تقرير مصيرها، وفي ظل سياسات دولية وإقليمية وعربية، تخشى من نجاح الربيع العربي، وتُغذي عودة الاستبداد وثوراته المضادة، تحت غطاء (أولوية مكافحة الإرهاب) ووضع الشعوب العربية أمام مفاضلة قسرية جائرة: إما التدجين والاستسلام لواقع الاستبداد والتسلط، وإما التضييق والاعتقال والتهجير والتدمير.
بالتوازي مع ذلك، التوغل في خطوات فرض التطبيع مع العدو الصهيوني، واستغلال انشغال الشعوب العربية بمآسيها ومخاوفها من المجهول، لتصفية القضية الفلسطينية من خلال صفقة القرن التي تشارك فيها الأنظمة العربية بكل ذل وخنوع.
المسألة اللافتة في ضوء تسعير الحروب والصراعات في العالم العربي، أن معسكر أعداء الحرية بمختلف دوله الغاشمة وأنظمته المافيوية، يتجاهل أن إفقار شعوب المنطقة، ودفعها إلى حائط الأزمات والمعاناة الإنسانية المتفاقمة، سيفجر آبار الغضب والثورة ولو بعد حين، وسيضاعف من حدة التناقضات بين سلطات التبعية والنهب، ومجتمعات الفقر والحرمان والقهر. ما يحدث اليوم في السودان من ثورة عارمة في مواجهة نظام البشير الفاشل والدموي، ما يؤكد بوضوح على استحالة نجاح سياسات الاحتلال والهيمنة واغتصاب السلطة، في إسكات الشعوب التواقة للحرية والعدل والخلاص. بل أن المشهد السوداني يُعيد التأكيد على شرعية الربيع العربي وطنياً وسياسياً وأخلاقياً، وترابط حلقاته الجدلية بين الشعوب العربية الثائرة على واقعها المظلم.
في مستهل العام 2019، لا خيار أمام قوى الحرية والتغيير إلا مواصلة العمل والكفاح في وجه قوى الطغيان والاحتلال، وتجديد الحراكات الشعبية وتنظيمها، وفق خطاب وطني تحرري، وحوامل وطنية ديمقراطية صادقة، لا مكان فيها لأجندات ومشاريع تناقض جوهر فكرة الحرية والعدالة، وتكون رافعة حقيقية لإقامة دول وطنية ديمقراطية تعددية تكفل الحياة الكريمة لكل مواطنيها، ويتحقق من خلالها نهوض عربي حضاري وفاعل طال انتظاره.