كفاح جهجاه
يفصل حاجز كبير بين هوية اللاجئ الذي أتى إلى أوروبا من البلدان التي ما تزال تعاني الحرب والدمار وبين هوية المضيف من الدول الغربية وهو حاجز التناقض بين عناصر كلا الهويتين وعلى الأخص ما يتعلق بخطاب كل منهما حيث يظهر ذلك التناقض بأقصى حدوده ليشكل اليوم عقبة واضحة في طريق عملية الاندماج.
كلا الهويتين تحمل أبعادا متعددة كالبعد التاريخي والديني.. الاجتماعي والثقافي.. العادات والتقاليد والأعراف وكذلك القيم المتفق عليها في رؤية العالم وفي النظرة إلى الرجل والمرأة والطفل، ولكن الهوية الأولى هوية محافظة يتأثر خطاب عناصرها بالتأسيس السلطوي في السياسة والثقافة، ذلك التأسيس الذي ارتكز بصورة أساسية على القمع وإلغاء الحقوق الفردية، وذهب إلى تحييد المنهج العلمي في العديد من القضايا الجوهرية التي تتطلب بشدة اعتماد ذلك المنهج، وكذلك فإن الدين يلعب دورا أساسيا في ذلك الخطاب حيث يعد واحداً من مصادر التشريع ويدخل في كل شيء في حياة الأفراد حتى في طريقه إلقاء التحية.
أما الهوية الأخرى فهي هوية منفتحة تتبنى خطابا علمانيا في النظر إلى عناصرها المختلفة أساسه فصل الدين عن الدولة وتحييد وجوده في حياة الأفراد إلى ما يشبه الوجود الرمزي بدون أن يكون له دور في التشريع القانوني.
يمكن القول في هذا السياق أن كلا الهويتين تحمل عنصر الامتداد في التاريخ ولكن خطاب الأولى، أي الهوية العربية، في دراسة التاريخ خطاب ديني سلطوي يضع أحداث ذلك التاريخ خارج دائرة النقد وكل شخصية فيه خارج دائرة المساءلة وبالأخص حقبة الدولة الدينية.
فهو من هذا المنطلق تاريخ ” نقي ” يدعم استمرار الدين كواحد من أدوات التأثير على الوعي ويدعم استمرار التصورات الماضوية عما يجب أن يكون، في المقابل تحمل الهوية الأخرى امتدادها في التاريخ ولكن خطابها في دراسته خطاب علماني وليس ديني
ما يضع أحداث ذلك التاريخ ضمن دائرة النقد وكذلك شخوصه، ففصل الدين عن الدولة يفسح مجالا واسعا لنقد الأخطاء التي حصلت في الماضي بما في ذلك ما حدث في زمن سيطرة الكنيسة، بالإضافة إلى أن الدراسة العلمية للتاريخ تتقصى الموضوعية بالضرورة وتبتعد عن اليقينيات.
هذا التناقض إذن بين خطاب هاتين الهويتين يعد من المعوقات الأساسية أمام اللاجئ لاستيعابها في سعيه للتعايش مع الآخرين في المجتمعات الجديدة وهنا يبرز سؤال على غاية من الأهمية يتعلق بمدى المرونة التي يتعاطى بها الفرد مع تلك الهوية التي يحملها إلى بلدان اللجوء.. هل تحتوي تلك الهوية صاحبها بالكامل أم أنه هو الذي يحتويها؟ و هل بالمقابل يحتوي الفرد في العالم الغربي هويته أم أنها رغم توجهاتها العلمانية ما تزال بعض المظاهر التي لحقت بخطابها تحتويه؟
إن قدرة الفرد على احتواء عناصر هويته ستحدد إلى أي مدى بوسعه أن يتواصل مع هوية أخرى غريبة عنه، وفي هذا السياق فإن عدة عوامل تجعل من احتواء الفرد للهوية العربية بدلا من أن تحتويه أمرا صعبا سواء أكان لاجئا أم لم يكن.
أبرزها كما ذكرنا سابقا هو الخطاب الديني الطاغي على مكوناتها وهو يجعل كل عنصر فيها يرتبط بصورة مباشرة مع المقدس، الأمر الذي يؤدي الى ما يسمى بالتفكير الاطلاقي، حيث تصبح أفكارنا عن الكون والعالم هي الصح المطلق وتقاليدنا هي الصح المطلق ورؤيتنا للعالم.. للرجل والمرأة والطفل هي الصح المطلق؟
وعند الاصطدام ببيئة أخرى نقيضة كحال المجتمع الأوروبي فإن ذلك سيعني ضرورة العيش في بيئة لا تحترم المقدس كما نعرفه نحن والمقدس لا يمكن أن يكون شيئا آخر غير ما نعرفه نحن؟
هذه الرؤية الراسخة في مكونات الهوية العربية والتي لا تنفك تستمد شرعيتها من مطلقاتها الغيبية أعاقت لوقت طويل وما تزال تعيق مسألة تطور التفكير النقدي في العالم العربي الذي من شأنه أن يكون أداة قوية بيد الفرد في التعاطي مع هويته الخاصة واحتواء عناصرها وغياب النقد والاحتواء قد دفع بالعديد ممن التجأ في أوروبا الى الانكفاء و تشكيل مجتمعات معزولة تتواصل مع البيئة المحيطة فقط بدافع الضرورة أو المصالح المشتركة.
الانكفاء لدى هؤلاء يقابله بنفس الوقت ذهاب آخرين نحو ما يسمى بالانصهار والذوبان في البيئة الجديدة وهذا مع الأسف لا يعد احتواء فكريا أو نقديا للهوية الأم بقدر ما هو تملص من موروثها المثقل بالقيود على كافة الأصعدة السياسية والدينية والاجتماعية والانحلال في الثقافة الغربية، ولو أن هذا الانحلال لا يعني بالطبع الإحساس الكامل بعناصر تلك الثقافة كالتعمق في فهم التاريخ الغربي والعادات الجديدة وطرق التفكير وإنما هو انحلال في مظاهرها الخارجية لا أكثر ولا أقل، وهي نفس المظاهر التي نقلتها العولمة من خلال حركة تدفق المعلومات عبر الإنترنت والفضائيات وأدت إلى محو العديد من الثقافات الأصلية قبل أن يكون هناك لجوء إلى أوروبا أو غيرها، فالكثيرون من جيل الشباب متأثر بالحضارة الغربية قبل الوصول الى أوروبا.
أما في الجانب الغربي فما يزال خطاب الهوية علماني الطابع غير قادر بالكامل على التخلص من آثار نزعاته الاستعلائية القديمة التي ورثها الغرب من سنوات الاستعمار وعززتها النقلة النوعية التي حدثت في الحضارة الغربية مع قيام الثورة الصناعية وثورة الاتصالات التي أدت الى تعميق الشعور بالتفوق والمركزية في الشخصية الغربية في علاقتها مع العالم.
يواجه اللاجئ مظاهر تلك النزعة الاستعلائية من خلال ما يصادفه من حين لآخر من تعامل عنصري يواجهه أيضا أولئك الذين تمكنوا من تحقيق النجاح في عملية الاندماج وتحقيق نجاحات على المستوى الشخصي والمهني.
إن الاندماج بمعناه الصحيح لا يمكن أن يتماشى مع مظاهر الفوقية أو الدونية في تفاعل هويتين كما لا يمكن أن يتواجد عند الذهاب إلى الانصهار أو الانكفاء إنما هو تواصل حضاري مثمر لأفراد يدفعهم الإصرار على لعب دور إيجابي في حياة المجتمع الذي يعيشون ضمنه سواء من اللاجئين أو من مواطني تلك الدول، إنه ينطلق من الابتعاد عن ردود الفعل ومحاولة الاحتواء الواعية والمنفتحة لمفردات الحياة الجديدة التي ربما لم تترك الحرب خيارات كثيرة سواها ولكنها أمر واقع يجب التعاطي معه بصورة جادة.