سمير الزبن
تختلف قضية اللاجئين الفلسطينيين عن غيرها من قضايا اللاجئين المتزايدة في العالم بأن اللاجئين الذين هربوا من الحروب، أو من مخاطر أخرى تعرّضوا لها، أو هُجّروا لأسبابٍ تمييزية وفئوية وأهلية، بقيت بلادهم هي البلاد نفسها التي خرجوا منها، على الأقل تحمل الاسم نفسه. أما فلسطين، المكان الذي هُجّر الفلسطينيون منه، فقد أصبح مكانا آخر، ودولة أخرى، حاولت وتحاول، يائسةً، إخفاء الآثار التي تركها اللاجئون في بلدهم، قبل مغادرتها إلى الشتات، حتى لو أخذت اسما آخر على الخريطة السياسية للعالم. ومفارقة قاسية أخرى عاشها الفلسطينيون كلاجئين تختلف عن قضايا اللجوء الأخرى، تتمثل في أن كل النزاعات والصراعات والحروب التي أفرزت قضايا لاجئين، سُمح لهؤلاء بالعودة إلى ديارهم، بعد انتهاء الصراع أو الحرب، بينما مُنع اللاجئون الفلسطينيون من العودة إلى ديارهم التي هُجّروا منها، ما أبقاهم لاجئين يتناسلون لاجئين في المنافي القريبة من وطنهم.
وسمت هذه الخصوصية الفلسطينية تجربتهم باللجوء بخاصية فلسطينية، من دون تجارب اللجوء الأخرى. تمثلت هذه الخصوصية بالعبء الذي اُلقي على عاتق اللاجئين في المنافي، فلم يكن عليهم أن يحنّوا إلى وطنهم المفقود الذي غادروه كما هو حال بقية اللاجئين في العالم، بل وكان عليهم أن يعيدوا إنتاج وطنهم من جديد في المنافي، فالوطن الذي غادروه لم يبقَ على حاله،
فهناك من يدّعي أنهم لم يكونوا هناك أصلا، وأخذ يحاول إخفاء ملامحهم وآثارهم عن أرضهم. وبذلك، لم يقع على عاتقهم إعادة إنتاج مجتمعهم المقتلع من جديد في المنافي من جديد فحسب، بل وكان عليهم أن يعيدوا إنتاج وطنهم بمخيالهم الجمعي، بوصفه فردوسهم المفقود. إضافة إلى ذلك، كان عليهم أن يحوّلوا المخيمات البائسة التي عاشوا فيها إلى نوع من امتداد للوطن، ومن امتداد المأساة باعتبارها ثنائية وطنية، حيث وجدت هذه المخيمات في البلدان المحيطة بفلسطين، لكنها عمليا كانت استمرارا تاريخيا لفلسطين التي يحاول محتلوها إخفاءها عن الخريطة السياسية للعالم.
هذا ما يُفسر الارتباط القوي بين اللاجئ الفلسطيني والمخيم، وقد ظهر ذلك جليا في تجارب الاقتلاع الفلسطيني الثاني، وتحديدا في لبنان وسورية، فبعد المغادرة القسرية للفلسطينيين في لبنان في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية وبعدها، وكذلك الحال بالنسبة للحرب في سورية التي عصفت باللاجئين الفلسطينيين، كما عصفت بالسوريين، تبيّن أن هؤلاء لا يتمسّكون بوطنهم فلسطين فحسب، بل ويتمسّكون بالمخيم الذي عاشوا فيه في المنفى أيضا.
تبدو حالة التمسّك بالمخيم غير مفهومة وغريبة، خصوصا أن الذين يحنّون إلى المخيم ويتمسّكون به، باتوا يعيشون في دولٍ غربية، وأوضاعهم أفضل بكثير مما كانت في المخيمات التي غادروها بوصفها أمكنة بائسة.
في البداية، حيّرني السؤال. لماذا يرتبط اللاجئ الفلسطيني بالمخيم، على الرغم من أن المخيم، تاريخياً، كان عنوان بؤسه واستمرار نكبته، وكيف يكون لمثل هذه الأماكن البائسة هذه الجاذبية؟ لم ترتبط حالة حنين اللاجئين إلى المخيم والتمسّك به براهن مخيم اليرموك الدمشقي الذي لا يصنف مخيماً وفق وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) فحسب، بل هو يشمل المخيمات الأكثر بؤساً في سورية، وكذلك الحال بالنسبة لفلسطينيي مخيمات لبنان الأكثر بؤساً أيضاً.
لماذا يحنّ اللاجئ الفلسطيني إلى مخيمه البائس، حتى في غير أوقات النكبات والترحيل؟ سابقاً، سخرتُ من هذه الظاهرة، وأعتبرها نوعا من تعذيب الذات. وقلت إن الفلسطيني يحنّ إلى “جماليات المخيم/ جماليات القبح”. بالطبع، المخيم فيه كل شيء إلا الجماليات المعمارية، فهو كتلة إسمنتية عشوائية. شغلني السؤال طويلا في السابق، وهو يُلحّ عليّ، منذ تجربة النزوح من اليرموك قبل سبع سنوات. هذا المخيم الذي اعتبره أهله راسخاً في الوجود أكثر من فلسطين ذاتها.
يمكن القول أن هويات البشر مسألة في غاية الأهمية والتعقيد في الوقت ذاته، وسؤال الهوية يتجاوز المفاضلة بين شروط حياة جيدة وشروط حياة سيئة. أعتقد أن الإنسان بوصفه صاحب هوية قد يختار شروط حياة سيئة ويفضلها على شروط حياة جيدة، إذا وجد أن العيش الأول يجيب على سؤال الهوية، من أنا؟ لأن الشروط في المكان الثاني تجعله نكرةً غير منظورة. شروط المخيم في الشتات الفلسطيني، على الرغم من كل مصاعبه ومتاعبه، منح الفلسطيني الفرصة لإعادة إنتاج هويته وانتمائه، بينما المنافي الأخرى، خصوصا الغربية، يشعر أنها تريد منه أن يكون أي شيءٍ إلا نفسه، أن يندمج وبشروطها في مجتمعها، الذي أول ما تقوم به هذه السياسة هو سحق هويته. وبناءً على هذا، نستطيع السؤال من جديد: هل يحنّ اللاجئ في المنافي إلى بؤسه في المخيمات؟ بالتأكيد لا.
إذاً، ما الذي يُفسر الظاهرة (وهنا أكتب اقتراحا للتفسير، بالطبع ليس نهائيا)؟ المخيم بالنسبة للفلسطيني هو المكان الذي صنع فيه وطنه من الحلم في مواجهة الاقتلاع. بالتالي هو المكان الذي اخترع فيه هويته، وأصبح المخيم هو وطن/ الحلم الذي امتنع عن التحقق في الواقع عقودا. هذا صحيح، لكنه، على كل عيوبه، هو الذي منح الفلسطيني هويته، فالفلسطيني في هذه الحالة لا يحنّ إلى بؤس المخيم، بل إلى المكان الذي منحه الحلم، منحه الهوية، في وقتٍ يعيش في مكانٍ يحاول سحق هويته، ويحوّله إلى إنسان آخر بهويةٍ أخرى، بذريعة الاندماج في المجتمعات الجديدة. لذلك، يمكن القول إن المخيم شكل تجمعا للحالمين الذين نسجوا وطنا من الذاكرة، ومن الحلم صنعوا شعبا في جغرافيا الآخرين، مخترعين هويتهم من جديد، هويةً أحبوها وتلبسوها، وأصبحت مكوّنهم الأساسي. وشعروا بأن هويتهم مهدّدة، عندما يتفكّك المخيم ويختفي. بالتالي، يتفكّك الحلم وتتفكك الهوية الشخصية. ولأنه لم يعد هناك مكانٌ يجمع الحالمين. لذلك يحنّ الفلسطيني اللاجئ إلى المخيم لا بوصفه مكانا للبؤس، بل مكانا لصناعة الحياة بوصفها هوية شخصية.
المصدر: العربي الجديد