وسام شرف
اتخذت العديد من الدول العربية اتجاهًا جديدًا وسريعًا في تطبيعها مع إسرائيل، تحديدًا في العاميْن الأخيريْن، بالأخص بعد خروج الثورة السورية عن السيطرة، زيادة حدة الصراع السعودي – الإيراني (السنّي – الشيعي) وصعود ظاهرة اليمين المتطرف في الغرب المتجليّة بفوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية.
قد يكون هذا التطبيع المحتمل ناتجًا عن عدة عوامل سياسية، واجتماعية، واقتصادية. لن أكتب عن العوامل التي أدّت أو تؤدي للتطبيع، بل سأكتب عن المقلق والمخيف وهو ما قد يترتب عن هذا التطبيع من خروق بحق الشعب الفلسطيني وحريته بتقرير مصيره.
مؤخرًا، زار وزراء إسرائيليون دولًا عدة في الخليج العربي. بعضهم أكثر من التباهي بهذه الزيارة “التاريخية” لدرجة ذرف “دموع التماسيح” في أبو ظبي من قبل وزيرة الثقافة والرياضة الإسرائيلية ميري ريجيف. إن الفرح بهذا التطبيع مبني على معرفتهم للفائدة النابعة منه، فاقتصاديًّا تستفيد إسرائيل ودول الخليج من هذا التطبيع بشكل كبير، إذ تصبح إسرائيل الرابط الحصري بين التجارة الأوروبية ودول الخليج والميناء المركزي في الشرق الأوسط، متفوّقةً على قناة السويس باهظة الثمن. بالمقابل، تستفيد دول الخليج من تسويق النفط والغاز في إسرائيل وأوروبا عن طريق أنابيب تمتدّ في البحر والبرّ. سياسيًّا، تهنأ إسرائيل من وضع مسمار آخر في نعش القضية الفلسطينية، في إطار ما يسمّى بصفقة القرن، وقد نشهد على ضمّ المزيد من المناطق الفلسطينية المحتلة للدولة الصهيونية، فيما تستفيد دول الخليج من هذا التطبيع عن طريق خلق محور شرق أوسطي واسع مناهض لإيران.
لهذا، يبدو التطبيع محتملًا بسبب صعوبة الفوائد الجمّة العائدة على الدول المطبّعة، نفس الدول التي تتناسى عمدًا التداعيات والنتائج الإضافية، المقصودة أو غير المقصودة، التي قد تنتج من مشاريع التطبيع المستقبليّة.
السياحة والتجارة… “سكة حديد السلام”
في زيارته لأبو ظبي، عرض وزير المواصلات الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، خطّة لمد شبكة قطارات من حيفا إلى بيسان في الأراضي المحتلّة عام 1948 مرورًا في إربد وعمّان في الأردن ووصولًا للعديد من مدن الخليج. أطلق كاتس اسم “سكة حديد السلام” على هذا المشروع، في محاولة لاستقطاب الرأي العام العربي والخليجي، وألقى خطابًا محرّضًا بامتياز في تصريحه بأن هذا المشروع سوف يزيد من قوّة “دول الشرق الأوسط المعتدلة” في حربها ضد “التطرّف والإرهاب”. أيضًا، وفق الخطط التي تم عرضها ضمن هذا المشروع، سوف يجري ربط نابلس وجنين ورام الله في السكة الحديدية، بغية تقديم إمكانات سفر وفرص عمل لسكان الضفة الغربية الفلسطينيين.
يحمل هذا المشروع العديد من الجوانب المظلمة، فهو مروّع لرعاة السلام الحقيقيين في الشرق الأوسط، ومبكٍ للشعب الفلسطيني. إنّي أخشى مما قد ينتج عنه من تداعيات تعمّق جروح القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، سوف أفسّرها أدناه.
لقد حرص المستعمر الصهيوني على خلق حالة اقتصادية سيئة في الضفة الغربية، وسعى دائمًا لسرقة الموارد الطبيعية والأراضي والزراعة، عن طريق ممارسات إجرامية وسياسات استعمارية وتفرقة عنصرية، وحرص على ألّا يترك للفلسطينيين سوى الفتات.
في المقابل، تهنأ دول الخليج من اقتصاد مميّز، مستوى رفاه عالٍ، فرص عمل عديدة، وحاجة ملحّة للأيدي العاملة. هذه الوفرة الموجودة في الخليج العربي والغائبة في فلسطين قد تتسبب بهجرة طوعية للشباب الفلسطيني من الضفة الغربية للخليج العربي باحثين بالأساس عن تحسين أوضاعهم الاقتصادية، عن طريق ممارسة نفس المهن التي كانوا قد مارسوها في الضفة، ولكن، سيكون بالإمكان بلوغ استقلال اقتصاديّ ومستوى رفاهي أكبر. لهذا، قد تكون إحدى تداعيات مشروع “سكة حديد السلام” هي هجرة طوعية، في ظاهرة قد سميّت بالماضي بظاهرة “التهجير الناعم”.
أقوال جاهزة
شاركغردإن الفرح بهذا التطبيع مبني على معرفتهم للفائدة النابعة منه، فاقتصاديًّا تستفيد إسرائيل ودول الخليج من هذا التطبيع بشكل كبير، إذ تصبح إسرائيل الرابط الحصري بين التجارة الأوروبية ودول الخليج والميناء المركزي في الشرق الأوسط.
وفق الخطط التي تم عرضها ضمن هذا المشروع، سوف يجري ربط نابلس وجنين ورام الله في السكة الحديدية، بغية تقديم إمكانات سفر وفرص عمل لسكان الضفة الغربية الفلسطينيين. يحمل هذا المشروع العديد من الجوانب المظلمة، فهو مروّع لرعاة السلام الحقيقيين في الشرق الأوسط، ومبكٍ للشعب الفلسطيني.
لقد كان هذا التهجير ممكنًا بسبب الخناق الاقتصادي وسياسات الحصار الممنهج المتّبعة في فلسطين المحتلة، التي صنعت فجوة اقتصادية واسعة، وحصرت فرص العمل، لتصبح فكرة الهجرة إلى الولايات المتحدة وكندا أكثر ورديّة من الصمود في القدس.
الولايات المتحدة و”التهجير الناعم”
تهدف الصهيونية منذ بداية الهجرة اليهودية إلى فلسطين لإفراغ الأرض من سكّانها، عن طريق القتل والتدمير والتهجير، بهدف التخلّص من الوجود العربي. بعد احتلال القدس، ظهر واقع جديد، زادت فيه أعداد العرب الذين يعيشون تحت حكم الصهيونية بشكل كبير، وصعب على إسرائيل إقرار سياسة لتهجير الوجود العربي من المدينة المقدّسة. أرادت السلطات الصهيونية التخلّص – بشتى الطرق – من العائلات العربية في القدس، وبعد أن أثبت استعمال القوة فشله في هذا الصدد، متوّجًا في صمود الفلسطينيين في القدس، عندها، ظهرت الحاجة لتحديث أساليب التهجير. في هذا الصدد، وكما عودتنا الولايات المتحدة دائمًا، أسرعت لتقديم يد العون لشقيقتها المستعمرة في الشرق الأوسط، هذه المرّة عن طريق سفارتها في تل أبيب. استغلت إسرائيل صعود نجم “الحلم الأمريكي” في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي لتقوم بدفع أهل القدس، في نفس الفترة، لتقديم طلبات هجرة للولايات المتحدة وكندا، أيضًا بسبب سوء الأحوال الاقتصادية في القدس والرغبة البشرية الطبيعية بالبحث عن حياة أفضل. سمّيت هذه الظاهرة بالتهجير الناعم: تقديم سفارة البلدين تسهيلات عديدة للعائلات في القدس التي تبغي الهجرة للولايات المتحدة وكندا. بهذا، حصلت حوالي 2000 عائلة من القدس على تصريحات هجرة، في محاولة إفراغ القدس من سكانها وإزالة طابعها العربي منها.
لم تكن هذه السياسة رسميّة، ولم تكن قاسية، رغم أنها اعتمدت التهجير كأساس لها، بل اتسمت بتقديم الإغراءات الاقتصادية وفرص العمل لسكان القدس، مقابل السفر وإفراغ المدينة، طوعًا لا إكراهًا، مبتسمين ولكنّهم مرغمين بسبب سوء ظروف المعيشة، القمع، والاضطهاد.
لقد كان هذا التهجير ممكنًا بسبب الخناق الاقتصادي وسياسات الحصار الممنهج المتّبعة في فلسطين المحتلة، التي صنعت فجوة اقتصادية واسعة، وحصرت فرص العمل، لتصبح فكرة الهجرة إلى الولايات المتحدة وكندا أكثر ورديّة من الصمود في القدس، ليصبح السعي وراء لقمة العيش بعيدًا عن الصراعات المسلحة وغير المسلحة في الشرق الأوسط فكرة أكثر منطقيّة من البقاء والصمود في الوطن والأرض. ساهم الوضع الاقتصادي الجيّد في الولايات المتحدة وكندا والحاجة للأيدي العاملة ببلورة هذه السياسة.
التهجير ليس الهدف، ولكنه من التداعيات المرغوبة
إن الهدف من هذا المشروع ليس التهجير الناعم، بل النمو الاقتصادي والسياسي، كما ذكرت أعلاه. أيضًا، تنفيذ هذا التطبيع على أرض الواقع سوف يسرع بإطفاء شعلة القضية الفلسطينية والإسراع بتطبيق ما يسمى بـ “صفقة القرن”.
إن هذا التهجير ليس غريبًا علينا، فهو يحصل الآن في المكسيك والولايات المتحدة (بشكل غير مرغوب، ويفكر الرئيس الأمريكي ببناء حائط لصده)، حدث في الماضي بين شرق وغرب برلين (وأغضبت شيوعيو ألمانيا الشرقية، ليقوموا ببناء الحائط الشهير)، ولكن، في الحالة الفلسطينية، سوف ترغب إسرائيل ودول الخليج بهذا التهجير الناعم، ولن يعملوا على إيقافه.
المصدر: رصيف 22