أيمن أبو هاشم
قبل يوم من إحياء فلسطينيي سورية ذكرى النكبة الحادية والسبعين هذا العام، شهدَ مخيم النيرب الواقع جنوب شرق حلب، فاجعة جديدة حصدت عشرات اللاجئين الأبرياء من أبنائه بين شهيدٍ وجريح، إثر تعرض المخيم قبل آذان الإفطار بقليل، إلى قصف صاروخي عشوائي، طال عددًا من أبنية المخيم المزدحم بأهله والنازحين إليه. هذه المجزرة التي تضاف إلى فواجع الموت السوري الراعف، تشبه في نمطها الإجرامي، مجزرة شارع الجاعونة في مخيم اليرموك، التي وقعت في رمضان من عام 2012، وهي تثير مجدداً مشاعر الحزن والألم على الضحايا الأبرياء، وتستحضر كل المآسي التي ضربت فلسطينيي سورية خلال محطات الثورة، وتفتح على نكئ جراح يصعب أن تندمل مع استمرار النكبة السورية الكبرى.
ليس محض صدفة أن يَلقى ورثة الجيل الأول لنكبة عام 1948، حصتهم المروّعة من ضروب القتل والاعتقال والتدمير والحصار والتهجير، فلم يكن استهداف وجودهم في سورية، مما تعوزه الشواهد الحيّة، على دور نظام الأسد في صناعة نكبتهم السورية، التي فاقت في تداعياتها الكارثية، قدرتهم الجمعية على الثقة بإحياء نكبتهم الأولى، وإحياء رواية اقتلاعهم، وتمسكهم بحق العودة إلى ديارهم الفلسطينية، وهم غارقون بطوفان الدم والألم والضياع والتنكر. في مثل هذه الحالة الفريدة التي يعيشها فلسطينيو سورية، تستغرق أسئلة البقاء والحفاظ على الوجود والهوية، جلّ ذكرى وأسئلة النكبة التأسيسية، ويلتبس فيها معنى الإحياء، بين تعدد المسؤولين عن النكبات، وصعوبة تلمّس دروب الخلاص.
إحدى وسبعون عاماً، لم تكفِ كي يلملم اللاجئون أشلاء ضحاياهم، ويتحولوا إلى مجاميع بشرية مستنزفة، تتقاذفها بلا هوادة محارق الموت والتهجير، كما أمسى عليه حال فلسطينيي سورية. الأشد قسوة ومرارة من ذلك، تضييع حقوقهم الوطنية، على مذبح انتهاك أوضاعهم الإنسانية، بهدف استكمال مشروع الاقتلاع والتهجير الصهيوني بحقهم، بأدوات أسدية غاشمة. إذ لم يعد خافياً أن تمرير صفقة القرن في ظل الوضعين الفلسطيني والعربي البائسين، يستلزم جعل حياة اللاجئين عموماً، وفي سورية على وجه الأخص، جحيماً لا يمكن الفكاك من أهواله وفظائعه، ليس فقط للتغطية على قضيتهم الأساسية، بل تحويلهم إلى أشتات منهكة، تبحث عن قوارب النجاة من هذا الواقع الكتيم.
ضاقت الرؤية مع كل نكبة تستولد دروسها الرهيبة، ومن أعدّوا مسرح الموت المفتوح، استلّوا عدة النفاق والمتاجرة بضحايا القضية وورثة أوجاعها، وكلما فضحت الحقائق أدوارهم البشعة، ارتكبوا مزيداً من المجازر للتغطية عليها. حاصروا مخيم اليرموك وهجّروا أهله بعد تدميره، بحجة القضاء على (الإرهاب)، وفي سجونهم أقاموا مسالخ الانتقام والتعذيب، كي تغيب الصرخة الفلسطينية في غياهب الموت، وأجرموا تحت عنوان (الدفاع عن شرف القضية) بلا نأمة خجل، لتغطية جرائمهم في تدمير وتعفيش مخيمات الصمود والعودة، ومسح ذاكرتها وحتى مقابر شهدائها. تراكمَ الحصاد المر من كل حدبٍ وصوب، وتزاحمت الهموم مع طعنات الغدر من قادة العار وتجار القضية، ومن نجا من صواريخ الحقد الأعمى، قتله الخذلان في منافي الصمت والغياب.
نكبة الفلسطينيين في سورية، أكبر من ضريبة العجز الفلسطيني عن مواجهة تداعيات النكبة الأولى، وأكبر من نتائج تآمر الأنظمة العربية على حقوق اللاجئين، وأعتى من سياسات النفاق الدولي، أنها محصلة الضريبة التاريخية، للتحالف العضوي بين الصهيونية وأنظمة الطغيان، والدلالة الوجدانية الصارخة، على وحدة المحنة السورية والفلسطينية، في زمن تلاشت فيه الأقدميّة بين ضحايا الثورات وطلّاب الخلاص المشترك، ولذلك ما عاد بالإمكان نزع سياقها الدموي عن تواريخ الاقتلاع الممنهج والمتوالي، لأنها تنزف مداداً من تساؤلات المطرودين من أوطانهم، وتنصهر في دروبها، ملامح الوجعين الفلسطيني والسوري، لا فارق بين أن تكون مهجراً من مخيم اليرموك أو مهجراً من الغوطة الشرقية، تتجاوران معاً في خيام البؤس، وترويان فصول كل النكبات والثورات والانكسارات .