د_ زكريا ملاحفجي
طالما أنك ولدت في الشرق الأوسط وتحديداً في سوريا، فهذا يعني أنك تعيش وسط مجتمع متألم لا يخلو بيت فيه من معتقل أو شهيد أو مُهجَّر، وطالما أنك سوري فأنت منذ 60 سنة لم تشعر بحياة كالحياة التي يحياها الناس في مناطق وجغرافيا أخرى في العالم، ليس هذا وحسب، بل أصبح أدب السجون جزءً من الروايات التي نسمعها صغاراً في مجالس الكبار ثم كتباً لمعتقلين سابقين يروون لنا حياتهم اليومية خلف القضبان، ثم إلى فقدان أخوة لنا تباعاً يرحلون إلى تلك الغرف المظلمة المخيفة التي طالما رووا لنا عنها، وكما قال الشاعر:
إنَّ الرَزِيَّةَ لا رَزِيَّةَ مِثلُها. فِقدانُ كُلِّ أَخٍ كَضَوءِ الكَوكَبِ
فمن منّا لا يعرف وهو بسنين التحصيل قصيدة هاشم الرفاعي:
أبتاه ماذا قد يخطُّ بناني والحبلُ والجلادُ ينتظراني
قرأنا عن مانديلا وعن بيجوفيتش وعن كل المناضلين في كل نواحي الحياة ضد التمييز العنصري أو ضد الاحتلالات والظلم، لكن حقيقة ما رأيناه وشاهدناه يفوق كل ما قرأناه وسمعناه، ليس تقليلاً من شأن العظماء ولكن حقيقة في منطقتنا عموماً وفي هذه الأمة عظماء كبار لم تنتشر أسماؤهم ولم يزع صيتهم لكنهم قدموا سني عمرهم من أجل العدالة والحرية والكرامة ليس من أجل أنفسهم بل من أجل شعبهم ووطنهم.
وأعتقد أن هؤلاء هم الأبناء البررة للأوطان، والسجانين هم أبناء الوطن العاقّين، وربما تتساءل هل كلا الطرفين شرب من ماء واحد ونشأ أحياناً في حي واحد.!
عندما تقرأ (خمس سنوات وحسب) ل (هبة دباغ) التي ختمت كتابها:
” لا أتخيل نفسي بعد تسع سنوات من السجن والعذاب والأمراض الجسدية والنفسية، تأتي لحظة الحرية، فأشعر بالضياع لا أدري أين أذهب، فأهلي جميعهم قتلوا إلا ثلاثة من أخوتي هاربين من جحيم الوطن، وعائلة نصفها يعملون لصالح مخابرات النظام! إنه الألم في أقسى صوره”.
ثم تقرأ (القوقعة) ل (مصطفى خليفة) وشخصية المسيحي المتهم اخوان مسلمين، أو (تدمر شاهد ومشهود) وهو من أوائل ما قرأت في أدب السجون،
وعندما يقول مصطفى خليفة ” من هو أول سجين في التاريخ؟ من الذي اخترع السجن؟ كيف كان شكل السجن الأول؟ هل هناك سجين واحد في كل العالم، في كل الأزمان، في كل السجون، قضى في السجن عاماً واحداً أو أكثر، ثم عندما يخرج يكون هو هو؟”
أو (الزنزانة رقم 10) لأحمد المرزوقي ” نعم، كانت معنوياتنا قد نزلت إلى الحضيض، وكانت أغلى أمنياتنا هي أن نموت موتة فجائية تقينا أهوال الاحتضار الطويل البطيء الذي كان فيه السجين يتقلب إلى جيفة مهترئة يتكالب على نهشها البعوض والذباب وأنواع لا حصر لها من الحشرات الطائرة والزاحفة!!”
وتسمع من ميشيل كيلو قصة الطفل الذي ولد في السجن ولا يعرف سوى السجن فهو لا يعرف العصفور ولا الشجرة ولا السماء.!
وصاحب كتاب (تلك العتمة الباهرة) الذي يقول: ” أدركت أن تبديد وجع لا يتم إلا بتخيل وجع أشد ضراوة منه وأشد هولاً”.
وأتذكر اثنان كانوا معي في مقاعد الدراسة أحدهم (ح.ع) من حلب والآخر (ع.ا) من ريف حلب كانا بمنتهى اللطف لكن يملكون نفس حرة ورأيًا حراً دفع الأول أحد عشر سنة في السجن ومات معه في السجن العشرات، لم يكتب مذكرات لكن عندما يحدثك عن الاعتقال ومراحله والتعذيب وصوره تشعر أنك تشاهد فلماً مرعباً لكنه حقيقة وواقع. ربما لا يتصور العقل ذلك، لكن حصل في تلك العتمات المظلمة وعندما يحدثني عن الجثث التي قتلت تحت التعذيب، كانوا يطلبون منه رفعها وتحميلها وكأنها أكياس وليست أجساد، إنه إنسان له ابن أو ابنة وأم وأب.!
والآخر سجنوه ثم قتلوه وكأنهم يقتلون عصفوراً، وأذكر عندما زرته بتدمر بعد جهد كبير كيف كانت حالته، حيث شعرت أنه ينتمي لعالم آخر تعيش فيه الوحوش وليس البشر.
إذا كان مانديلا اعتقل 27 سنة، فأحد الأصدقاء ممن تعرفت عليه (ع م) وهو الآن في الستينات، اعتقل 27 عاماً متواصلة و6 سنوات متفرقة والمجموع 33 سنة.!
كم مانديلا رأينا وكم سنرى؟ ومن أغرب ما حدثني به هؤلاء الزملاء أنهم رأوا في السجن معهم سجين رأى مناماً تحدث به لأصحابه أزعج السلطات.! ليست طرفة هي حقيقة.
عشنا مع أدب السجون ولا زلنا ولا أدري إلى متى سنعيش مع تلك الروايات التي خطتها الدموع لتسجل ذكريات ولحظات ليس فيها قصة حب أو لحظات سعادة وإنما فيها دم ودموع ونار. أحياناً يجول في بالي هل قرأ المستبدون يوماً شيء من هذه المذكرات.؟ وهل يشعرون بكم التوحش الكبير الذين هم سببه.
لهذا أقول لا يمكن لعاقل وإنسان يحمل بين جنبيه قلب إنسان وإنسانية أن ينسى هؤلاء الأبناء البررة ومتى يتخلصوا من أيدي هؤلاء العاقّين.؟!
عندما تنظر لحال من لا شعور ولا إحساس لديه بمن يقبعون داخل السجون تعرف عِظم المسؤولة والواجب الملقى لمن لديه ضمير ليفكر بهؤلاء المستضعفين ليكتب عنهم وليرفع صورهم وليسعى ليله ونهاره لعل الإنسانية توقف يوماً هذا التوحش، ولعل في منعطفات الأروقة الأممية تجد ولو ضوءً ينعكس يوماً على تلك الحجر المظلمة التي تحوي الأجساد المتعبة، وكم الأمانة كبيرة أمامنا جميعاً تجاه أبناء هؤلاء وأسرهم فأغلب أسر هؤلاء أسر منسية.!!!
وفي الختام الحرية والسلامة لكل معتقلي الرأي فصاحب الرأي هو إنسان حر وولدته أمه حراً.
المصدر: صحيفة اشراق