أكرم البني
باتت «لمّة» شهر رمضان، خانقة ودائمة… يقول خالد متحسراً، ويستدرك، كنا ننتظر هذا الشهر الفضيل كي ننعم بطقوسه… بفرح الأسرة في اجتماعها… بتعاضدها وتراحمها لتخفيف وطأة ما تكابده في حياتها، لكن حين يغدو بيت العائلة في العاصمة، ملاذاً لأبنائها المنكوبين من حرب همجية طالت، فنحن في «لمّة» مستمرة وموجعة… شقيقتاي، الكبرى، الهاربة من جحيم درعا، والتي أُعلمت منذ أسابيع بموت أحد أبنائها في سجون النظام بعد سنوات من اعتقال جائر، والصغرى، مع من تبقى من أطفالها وقد مزق القصف زوجها ودمر منزلهما الجميل في حي برزة الدمشقي… أخي وزوجته وطفلاه وقد خسروا كل شيء في معارك حلب… صبيتان صغيرتان من أبناء عمومتنا، كانتا الناجيتين الوحيدتين من أسرتهما، وانضمتا إلينا أخيراً، زوجة شقيقي الأصغر وطفلتها الرضيعة، والذي فُقد في إحدى جبهات القتال، وقيل إنهم لم يجدوا له أي أثر، ويكتمل الوجع، بدموع زوجتي التي تنسال صامتة على وجنتيها، خلال إعدادها ما تيسر من الإفطار الرمضاني، قلقاً وحزناً على أحوال ابننا البكر الذي سيق إلى الخدمة العسكرية، بما هو سوق نحو القهر والذل والموت!
يشيح أحمد بوجهه حزناً وألماً على ما آلت إليه الأوضاع… يتساءل بقلق وخوف وهو يتابع تواتر القصف والعمليات العسكرية على مدينة إدلب وأريافها… أليس فيما يحصل محاولة لاستغلال حرمة هذا الشهر الفضيل لتسعير حرب مجنونة هناك؟! تذكروا ما حل بالريف الدمشقي خلال شهر رمضان الفائت، حين استباحته قوات النظام وحلفاؤها، تدميراً وقتلاً، فيما سُمي حرب تحرير البلاد وتطهيرها من الإرهاب!… هل ستتكرر تلك المأساة وما رأيناه من مجازر ومشاهد مروعة؟! حيث لم تجد وجوه مئات الضحايا المعفرة بالتراب من ينتشلها من بين الأنقاض، وحيث كانت تساق، كالخرفان، عشرات ألوف المحاصرين من النساء والأطفال، إلى مراكز التفتيش والاعتقال، وهم يئنون قهراً وذلاً… وحيث لم تجد الجماعات الإسلاموية من يحاسبها على تخاذلها وبيع دماء البشر ثمن هربها ونجاتها… وتتحشرج تلك التساؤلات بغصة خانقة من ظواهر سلطوية بغيضة، كقطار النصر والفرح الذي يجوب المدن السورية ليهنئ الناس المنكوبين بقدوم الشهر الفضيل، وبنصر آخر قادم، ضد الوجود المسلح في إدلب!
عن أي رمضان وأي صوم تتحدثون! إننا نعيش صياماً دائماً، ليس هناك سحور ولا إفطار، بل نكون محظوظين إن توفرت لنا وجبة واحدة من الطعام في اليوم… تجيب خديجة بتذمر، بينما يتجاذب أطراف عباءتها أولادها الخمسة الصغار… لقد قتلوا زوجي ودمروا منزلنا، وها أنا الآن أهيم على وجهي بحثاً عن لقمة عيش لهؤلاء اليتامى، وعن مكان يؤويني بعيداً عن هذه الخيمة المهترئة… تنظر إلى البعيد بأسى ويختنق صوتها وهي تشير إلى الموائد والخيم الرمضانية العامرة بالأطباق والحلوى الشهية، والتي يتقصد أزلام النظام إقامتها في جوار مناطق النزوح، للإمعان في إذلال هؤلاء المحتاجين وقهر نفوس أطفالهم الذين يفترشون زوايا الطرقات لحظة الإفطار، لتقاسم ما يجدونه من طعام في صناديق القمامة.
وحال خديجة كحال غالبية السوريين داخل البلاد، الذين لا يعرفون من أين سيحصلون على وجبتهم الغذائية التالية، وقد باتوا، وجلهم من النساء والأطفال، في حالة عوز شديد مع تفشي غلاء فاحش لا ضابط له، ومع تراجع القدرة الشرائية، جراء التدهور غير المسبوق لليرة السورية أمام الدولار وغيره من العملات الأجنبية؛ الأمر الذي لم يفقد الفقراء فقط القدرة على اقتناء الحد الأدنى من متطلبات الإفطار الرمضاني، وإنما طاول فئات متوسطة بدأت مدخراتها تنفد، وتراجعت قدراتها على مساعدة المحتاجين في هذا الشهر الفضيل، وأوضحهم أعداد غير قليلة من التجار، باتت رؤوس أموالهم تتآكل، جراء بيع سلعهم بسعر لا يمكّنهم، مع الاستمرار في تراجع قيمة الليرة السورية، من إعادة اقتنائها!
يحل رمضان وشروط عيش السوريين تزداد سوءاً وتعقيداً في المناطق الخارجة عن سيطرة السلطة بسبب الحصار المزمن ونمط الحياة الذي تفرضه المعارضة المسلحة هناك. يزيد الطين بلة، تنامي حالات الفساد والتواطؤ مع تجار الحروب للاستئثار بكل شيء على حساب حاجات البشر، وأيضاً العقوبات الشنيعة التي تنفذها الجماعات الإسلاموية بحق من يخل بما وضعته من قواعد ونواهٍ، كقطع الرؤوس والأيادي والجلد والصلب والرجم وغيرها، فكيف الحال مع إجبار الفتيات القاصرات على الزواج من «مجاهدين» في أعمار آبائهم، ومع التجنيد الإجباري لألوف الأطفال وزجهم في قتال مكشوف يوازي الانتحار أو تحويلهم لقنابل موقوتة يتم تفجيرها عن بعد!
أما الحديث عن شهر رمضان في بلدان اللجوء فله طعم أكثر مرارة ووجعاً، حيث تتصاعد هناك أنات المعذبين والمعوزين مع تراجع فرص حصولهم على المواد الغذائية وانحسار العطاءات الأممية لتأمين أبسط احتياجاتهم، ومع إكراههم على العيش في مخيمات معزولة وبشروط سيئة لا تليق بالبشر، تتفاوت شدتها بين بلد وآخر، وأكثرها إيلاماً في لبنان مع ما نراه كل يوم من حالات ازدرائهم وإذلالهم وامتهان كراماتهم… والأسوأ فقدان غالبية أطفالهم فرص الحياة الطبيعية، وأبسطها التعليم والرعاية الصحية، ليغدوا عرضة للأمراض السارية والاضطرابات النفسية، ولقمة سائغة لشبكات التسول والجريمة والدعارة، وبخاصة من القصر.
يعيش السوريون رمضان هذا العام وهم يزدادون تحسراً على ما حل بحياتهم، والأمر لا يتعلق فقط بفظاعة الفتك والتدمير والتردي المريع في الأمن وشروط الحياة، أو بالتشوهات والانقسامات التي فعلت فعلها في المجتمع، فذكت العصبيات المذهبية والطائفية، وشجعت روح التنابذ والنزاع والانشطار إلى هويات متخلفة تهدد وحدة البلاد والدولة والشعب، وإنما أساساً باستمرار هذا الاستهتار العالمي بأرواحهم وما يكابدونه، ففي الوقت الذي تعترف به الأمم المتحدة بأن ما يحصل في سوريا هو من أكبر الكوارث الإنسانية التي واجهتها خلال تاريخها الحديث، يقف المجتمع الدولي، عاجزاً، عن خلق فرصة جدية لحل سياسي عادل ينصف السوريين المنكوبين ويلبي حقوقهم البسيطة، أو ربما هو يتقصد ترك هذا الجرح مفتوحاً، لتمكين قوى القهر والغدر، من محاصرة الروح السورية التواقة للحرية والكرامة، لكن، إلى حين!
المصدر: الشرق الاوسط