د- حامد طاهر
أولاً: مكونات الهوية العربية:
قبل أن نقوم بتحديد وتحليل مكونات الهوية العربية، تمهيدا لدعمها فى نفوس الأجيال الجديدة، لابد من بلورة مفهومين متقاربين قد يتداخلان أو يتطابقان، وهما مفهوما الهوية والجنسية.
ما الذى يجعلك تقول: أنا كويتى أو مصرى أو مغربى ، لمن يسألك عن جنسيتك ؟ إن معنى الجنسية ببساطة هو الانتماء إلى البلد الذى يولد ويعيش فيه الإنسان ، يتحدث لغته ويتبع قيمة وتقاليده . إنه البلد الذى تحمل جواز سفره وتتحدث باسمه فى العالم إذا كنت محملا بمهمة رسمية ، وهو البلد الذى مهما تجولت أو تغربت فى أنحاء العالم ترجع فيه أخيرا إلى بيتك وتلتقى بأهلك على أرضه وتدفن عند الموت فى ترابه .
وعلى الرغم من أن الجنسية تعد واجهة ظاهرة للهوية إلا أن هذه الأخيرة تظل أوسع وأكثر عمقا . لأنها تمتد فى تاريخ المجتمع الذى ينتمى إليه الإنسان وتندمج مع كل ما مر به من أحداث . ولاشك أن هوية المجتمع هى التى تنعكس بصورة مصغرة فى أعماق كل فرد فيه حتى ولو عاش معظم حياته فى بلد إجنبى وحصل على جنسيته .
فمثلا الإنسان العربى الذى يهاجر من أحدى البلاد العربية إلى أوربا أو الولايات المتحدة الأمريكية ثم يحصل هناك على جنسية أجنبية ، لا ينخلع بمجرد حصوبه على هذه الجنسية من هويته التى تظل مصاحبة له ، بل ومتماهية معه فى كل الظروف والأحوال .
والواقع أن الهوية العربية تتكون من مجموعة مترابطة من المكونات التى قد تزيد نسبة بعضها أو تنقص ، لكنها تتضافر فيما بينها لتطبع الإنسان الذى تتوافر فيه بخصائص واضحة وسمات محددة . وتتمثل هذه المكونات فى خمس ركائز أساسية هى :
1- الجنس العربى .
2- اللغة العربية.
3- التاريخ الوطنى.
4- الثقافة المحلية.
5- الدين.
وفيما يلى كلمة موجزة عن كل واحدة من هذه الركائز :
1- الجنس العربى : لا يمكن تصور وجود إنسان عربى إلا إذا كان قد ولد من أبوين عربيين أو من أحداهما على الأقل . ومن الواضح أن هذا العنصر البيولوجى هو الذى يعطى للجنس العربى استمراره منذ آلاف السنين وحتى اليوم . ونحن نعلم أن هناك قبائل عربية ظلت محافظة على نقاءها العرقى عبر مئات السنين . ومن اهتمام العرب بهذا النقاء خصص بعض العلماء العرب القدامى مؤلفات خاصة بالأنساب . وما تزال كثير من العائلات العربية تحتفظ بما يطلق عليه “شجرة العائلة” التى تتدرج فيها الأجيال وتتحدد أسماء الأجداد والأباء بدءًا من جذر محدد ومرورًا بالأغصان وانتهاء بالأوراق .
لكن النقاء الكامل لجنس من الأجناس البشرية لا يكاد يوجد على ظهر الأرض لأن هناك العديد من العوامل التى تتدخل فى اختلاطها وامتزاجها ثم فى إخراج أجناس جديدة منها. ومن الثابت تاريخيا أن كثيرًا من العرب قد غادروا موطنهم الأصلى فى شبه الجزيرة العربية واستقروا بعد الإسلام فى أصقاع عديدة من العالم كما حدث فى بلاد الرافدين والشام والشمال الأفريقى كله. وفى كل هذه البلاد اختلط بل امتزج الجنس العربى بالإجناس المحلية ومع ذلك ظلت له الغلبة وأصبح أهل هذه البلاد عربا بالمولد من ناحية ، وباللغة العربية والتراث الثقافى من ناحية أخرى .
واليوم يوجد العرب أو الذين هم من أصول عربية فى كل بلاد العالم تقريبا وخاصة فى أمريكا الجنوبية والشمالية ، وأوربا ، وأستراليا ، وهم يحملون جنسيات البلاد التى يعملون ويعيشون فيها كمواطنين لكنهم ما زالوا عربا بالأصالة وبالهوية وبعضهم يحرص على أن يعلم أبناءه اللغة العربية ويمارسوا الشعائر الإسلامية إذا كان الأب مسلما. وبالطبع توجد لهم مشكلات مع البلاد التى يقيمون فيها تتعلق بعدم نجاح اندماجهم تماما فى المجتمعات الأجنبية بسبب تمسكهم الشديد بهويتهم العربية .
2- اللغة العربية : تمثل اللغة العربية الركيزة الثانية يعد المولد من مكونات الهوية العربية. فاللغة هى أولا الأداة الأساسية التى يتفاهم بها الإنسان مع أبناء وطنه وأمته ، كما أنها الوسيلة المضمونة للاطلاع المباشر على تراث الأمة الثقافى والحضارى . وهى بالنسبة للإنسان العربى المسلم : اللغة التى نزل بها القرآن الكريم وسجلت سنة الرسول r كما أنها اللغة التى تتم بألفاظها بعض الشعائر الواجبة على المسلم ومنها الصلاة التى تقام خمس مرات فى اليوم والليلة .
واللغة العربية لا تخرج عن باقى لغات العالم ، فلها جانبان : أحدهما الجانب الأدبى الذى تسجل به أحداث الأمة ويكتب به أدبها ويتم التعامل بها فى المجالات الرسمية وهى المعروفة باللغة الفصحى ، والجانب الثانى هو الذى يتعامل به الناس فى الحياة اليومية وهى ما يعرف باسم اللهجات المحلية التى تختلف من بلد عربى إلى آخر ، بل إنها قد تختلف فى البلد الواحد من منطقة سكنية إلى أخرى .
ولا شك أن اللغة العربية قد حظيت بانطلاقتها الكبرى مع ظهور الإسلام الذى خرج بها من حدودها الجغرافيا المحدودة إلى فضاء العالم القديم ، وكان لارتباطها الشديد بالإسلام أثر بالغ فى تحول شعوب بأكملها لكى تصبح هى لغتها الأصلية بعد أن كانت تتحدث لغات أخرى قديمة كما حدث فى الشام والعراق ومصر وشمال أفريقية .
لقد استطاعت اللغة العربية أن تنجح فى البقاء والمقاومة والاستمرار طوال قرون عديدة ، تخللتها فترات ضعف وانحسار للشعوب التى كانت تتحدث بها وهى فى عصرنا الحاضر تحاول التماسك وتمتد رقعتها بفضل الإعلام المعاصر كما أنها أصبحت إحدى اللغات الست الرسمية المعترف بها فى منظمات الأمم المتحدة وهى تزحف حاليا ولو ببعض البطء على شبكة الإنترنت العالمية.
لكن حين يتعلم شخص غير عربى اللغة العربية ويجيد التحدث بها فإن ذلك لا يعنى أنه أصبح عربيا لأن المعيار هنا أن اللغة العربية تظل عنصرًا ثابتا لمكونات الإنسان الذى هو أساسا من أصل عربى .
3- التاريخ الوطنى : من أهم مكونات الهوية العربية التاريخ الوطنى بما يتضمنه من طبقات متراكمة من الأحداث التى شارك فيها واصطلى أحيانا بلهيبها الآباء والأجداد . وبما أن نظام الدول القومية هو الذى استقر أخيرًا فى حياة الأمة العربية فإن تاريخها الطويل يتصل اتصالا مباشرا بالتاريخ الوطنى لكل دولة على حدة . وهذا يعنى أن التاريخ الإسلامى يصبح – بكل ما فيه من أمجاد وانكسارات أحيانا – هو الذى يمثل جذر الشجرة التى تتفرغ منها أغصان التاريخ الوطنى للشعوب العربية فى الوقت الحاضر.
إن الإنسان العربى المعاصر لا ينبغى أن يمحو من ذاكرته التاريخية عصر ما قبل الإسلام ، حين عاش العرب فى الجاهلية يعبدون الأصنام ويغير بعضهم على بعض ولا يعتقدون بحياة أخرى بعد الموت ، حتى ظهر فيها الإسلام فأصلح عقيدتهم الدينية ونظم حياتهم الاجتماعية وجعلهم أصحاب رسالة عالمية راحوا ينشرونها فى كل مكان استطاعوا الوصول إليه خارج منطقتهم الجغرافية المحدودة .. وفى أثناء ذلك أقاموا دولا ذات أنظمة إدارية ونماذج حضارية أصبحت خاصة بهم وعلامة عليهم وحدهم ، بدءًا من الدولة الأموية ثم العباسية ثم المغولية فى الهند والعثمانية فى تركيا .
ثم جاءت فترة الضعف بينما قويت أوربا فبدأت مرحلة الاستعمار الغربى وما تلاها من مقاومة له انتهت أخيرًا بالتحرير وحصول كل بلد عربى على استقلاله وانتزاع حقه فى تكوين دولته ، لكن كل هذه الدول العربية بدون استثناء لم تقطع صلتها بماضى أمتها الطويل والذى تسطع فيه لحظات من المجد الذى يستحق الفخر وهو يمثل لها مرجعية تاريخية تستمد منها الكثير من مقومات وجودها وبواعث نهضتها .
كذلك فإن ذاكرة كل إنسان عربى لا تخلو من الشخصيات التاريخية البارزة التى ترتبط فيها بالقيم والمثل العليا من أمثال الخليفة العادل عمر بن الخطاب والخليفة الورع عمر بن عبد العزيز والقائد المحرر صلاح الدين الأيوبى والمهم هنا أن اعتزاز العربى بهؤلاء لا يتعارض أبدا مع اعتزازه ببعض الشخصيات الحديثة التى برزت فى التاريخ الوطنى الحديث لبلده . وهكذا تتواصل حلقات السلسلة التاريخية وتصبح عنصرا أساسيًا من مكونات الهوية العربية .
4- الثقافة المحلية : أقصد بالثقافة المحلية تلك الصور الذهنية التى تنعكس غالبًا على سلوك الأفراد فى المجتمعات العربية الحديثة . والواقع أنه مهما قيل عن الغزو الثقافى الوارد من الغرب لهذه المجتمعات وتأثر كثير من جيل الشباب بها فإنه يبقى لكل مجتمع عربى ثقافته الخاصة التى تكونت لديه من العادات والتقاليد والتراث الشعبى والمعارف التجريبية التى استقرت فى وجدان المجتمع وأصبحت الأجيال القديمة تسلمها بكل دقة وأمانة للأجيال الحديثة.
إن مصادر الثقافة المحلية تتنوع بين الأسرة وأتراب اللعب وزملاء العمل، وأصدقاء الهواية والتسلية ، إلى جانب ما يتلقاه الإنسان من وسائل الإعلام التى أصبحت من أهم مصادر الثقافة فى العصر الحديث . فإذا أضفنا إلى هذا كله إمكانية السفر والتجوال فى بلاد مختلفة استطعنا أن نقف على وضع الثقافة المحلية والروافد التى تصب فيها وتعتمد عليها .
ومع ذلك فلا يعنى أن أى إنسان عربى كثير الرحلات إلى خارج وطنه ويزور بلادا متعددة يمكنه أن يسقط من نفسه ثقافته المحلية بل إنه يحملها معه أنى ذهب ، وحين يرجع لوطنه فإنه ما يلبث أن يتعامل بصورة عفوية مع أهله ومعارفه وبنفس الأسلوب الذى يتعارفون عليه ، كل ما هنالك أن نظرته إلى الأمور تكون مختلفة عن نظرة زملائه ممن لم تتح لهم نفس الفرصة فى السفر.
إن الثقافة المحلية هى التى تفرض على الإنسان فى المجتمع أن يرتدى ملابس معينة وأن يتصرف مع غيره بأسلوب معين وأن يتحدث بطريقة معينة بل وأن يبتسم ويضحك مثل غيره فى المجتمع . وهو يدرك تمام الإدراك أنه إن لم يفعل ذلك ظهر بصورة غريبة بل ربما أحاطت به نظرات الدهشة والاستغراب . وهذا هو ما يجعل الإنسان – الفرد يندمج تماما فى ثقافة المجتمع الذى يعيش فيه ويتبناها بحيث تصبح جزءا من مكونات شخصيته ودافعا فى نفس الوقت لمعظم تصرفاته.
5- الدين : ليس معنى وضع الدين فى آخر المكونات الرئيسية للهوية العربية أنه أقل أهمية من المكونات الأربع السابقة، بل إنه قد يصبح أحيانا أكثر هذه المكونات أهمية. لكن العرب ليسوا جميعا مسلمين فبعضهم يدينون بالمسيحية وأقل من هؤلاء كثيرا يدينون باليهودية . ومع أن العرب كانوا هم العنصر الرئيسى فى حمل راية الحضارة الإسلامية فإن هناك شعوبًا أخرى قد شاركتهم فى حمل هذه الراية ومنها : الفرس والهنود والاتراك وبعض الأوربيين من أسبانيا فى عهد الأندلس الزاهر .
لقد كان الإسلام حضارة قبل أن يكون دولة . وقد ضمت هذه الحضارة بين جناحيها العديدة من الأجناس وأتباع الأديان والديانات الأخرى. وفى ظلها عاش الجميع بروح الإسلام السمحة فى معظم الأحيان ولولا هذا لما كانت قد استقرت واستمرت تلك المجتمعات الإسلامية قائمة ومتماسكة حتى اليوم.
إن الإسلام هو الذى أعاد تكوين الشخصية العربية على نحو غير مسبوق فقد حول الإنسان العربى من الأنانية الفردية إلى التضامن الجماعى ، وجعله يمسك نفسه عند الغضب ، ويتعود الحلم والعفو عند المقدرة ، كما أوصاه باحترام المرأة باعتبارها كائنا مخلوقا من نفس الرجل ، لها حقوقه وعليها واجباته، ودفعه إلى الاحتكام إلى القصاص بدلا من الاندفاع إلى الثأر ، ومن خلال الشعائر الدينية كالصلاة والصوم والزكاة والحج فتح أمام العربى المسلم أبواب التعاون الحقيقى مع كل من حوله : أقارب أو أجانب ، مسلمين أو غير مسلمين.
وليست قائمة المنهيات بالنسبة للمسلم بأقل أهمية من التعاليم المدعو إليها. فالإسلام يحرم القتل وشرب الخمر ولعب القمار والزنا والقذف وينهى عن الغيبة والنميمة وإشاعة الفاحشة وترويج الشائعات الكاذبة ويعتبر الفتنة أشد جرما من القتل .
وهكذا فإن العربى المسلم المتمسك بتعاليم دينه يعيش فى مجتمعه ، بل وفى أى مجتمع آخر ، بمجموعة من الالتزامات والنواهى المستقرة فى أعماق نفسه والتى يراعى فيها جانب الله تعالى قبل أن يخشى قوانين المجتمع.
إن الهوية العربية بمكوناتها الخمس التى ذكرناها تتأصل فى المنتمين إليها مثل الجذور التى يصعب اقتلاعها من الأرض . صحيح أنها قد تتعرض للكثير من العواصف ومستحدثات العصر لكن هذه تظل عوارض خارجية لا تصيب الجوهر الداخلى إلا فى القليل النادر. وهذا ما يجعلنا نؤكد على أهمية تدعيم مكونات الهوية العربية بمجموعها من العوامل المتضافرة التى يمكنها أن تظل محافظة عليها وصائنة لها .
ثانيًا : عوامل دعم الهوية العربية :
تناولنا فيما سبق مكونات الهوية العربية ، وتبيّن أنها تقوم على خمسة مرتكزات هى : الجنس العربى ، واللغة العربية ، والتاريخ الوطنى ، والثقافة المحلية ، والدين .. وكنا قد انتهينا إلى أن تضافر هذه المكونات هو الذى يعطى للإنسان العربى شخصيته الخاصة به ، وهويته التى يتميز بها فى العالم المعاصر . كما خلصنا إلى أن الهوية العربية تتعرض فى الوقت الراهن إلى بعض العواصف والمؤثرات الأجنبية التى قد تضعفها دون أن تقضى عليها تماما ، لذلك يصبح من الضرورى على كل العرب أن ينهضوا لصيانة هذه الهوية ، والعمل على تماسكها بل وغرسها فى نفوس الأجيال الجديدة التى هى أحوج ما تكون إلى ذلك .
وسوف نحاول فى هذا الجزء أن نركز على أهم العوامل التى يمكنها أن تدعم الهوية العربية فى العناصر الخمسة الآتية :
1-التربية الأسرية الرشيدة .
2-التعليم الذى يجمع بين الأصالة والمعاصرة .
3-الإعلام المتطور الذى يحافظ على الثوابت .
4-القوانين المحلية التى تتمشى مع الدين والأخلاق .
5-إبراز الجوانب المضيئة فى تاريخ العرب .
وفيما يلى كلمة مختصرة عن كل واحد من هذه العوامل .
1- التربية الأسرية الرشيدة : من منا لا يذكر مجموعة الأوامر والنواهى التى تربى عليها فى أسرته الصغيرة ، والجو الأسرى الذى كان يبسط جناحيه عليه لكى يحميه ، وينميه ، ويجعل منه إنسانا ناجحا فى الحياة . إن سلطة الأب التى قد تبدو صارمة ، إلى جانب حنان الأم الذى قد يبدو متساهلا هما العنصران اللذان يرسخان فى نفس الطفل منذ الصغر شعورى الخوف والرجاء .. الخوف من العقاب والرجاء فى المكافأة. ومن خلال الجمع المتوازن بينهما يمكن للإنسان أن يتبين بعد ذلك طريقى الصواب والخطأ ، وأن يميز بين ما يصلح وما يفسد أو يضر ..
لكن كل الأسر العربية ليست نماذج مثالية للتربية الرشيدة ، فبعضها مفكك تنتشر فيه الفوضى والتسيب ، وبعضها انحلت فيه رابطة الزواج فأصبح الأطفال إما فى حضانة أمهم فقط أو فى رعاية أبيهم الذى قد يتزوج من أخرى. وهنا يحدث الخلل فى تنشئة الأطفال على أصول الانضباط ، وقيم الرعاية الحانية . ولعل مما لا يدركه الأزواج أن مسئوليتهم الأخلاقية والاجتماعية فى تنشئة ابنائهم ، وخاصة فى مرحلة الطفولة ، من أخطر المسئوليات التى تهون معها مشكلاتهم الزوجية ، وعناد أحدهم تجاه الآخر .
إن الطفل لا ينسى طيلة حياته فترة طفولته الأولى ، وهى بكل مافيها من أفراح ومآس تظل تعمل عملها فيه ، وتطبع شخصيته بطابع خاص جدا . وقد يتصور بعض الآباء والأمهات عندما يوفرون لأبنائهم حاجاتهم الضرورية ، وكذلك كمالياتهم أنهم قد أدوا ماعليهم من واجب . كلا .. فان الطفل بحاجة ماسة إلى مراعاة مشاعره وأحاسيسه ، وإلى العناية بمراحل تطوره العقلى والوجدانى والجسدى.. لذلك فانه إذا افتقد هذه الجوانب فى إطار أسرته لم يكن أمامه بد من استقائها من الخارج ، وهنا يمكن ان يقع فريسة لأصدقاء السوء ، الذين قد يتسببون فى إفشال حياته كلها .
إن التربية الرشيدة فى الأسرة هى التى تنشئ الطفل على احترام الذات ، وتحمل المسئولية ، وتوقير الكبير ، ومساعدة الضعيف ، وصلة الرحم ، والعفــو عند المقدرة .. بالإضافة إلى العمل الجاد ، والتطلع إلى النجاح الشخصى الذى يعد جزءا لا يتجزأ من ازدهار المجتمع . ومن الممكن جدا أن تسرى هذه المبادئ والقيم من خلال توجيهات غير مباشرة من الأب ، وحكايات مسلية من الأم .. أما أن تتخلى الأسرة عن هذا الدور الهام ، وتتركه – كما تفعل بعض العائلات العربية – إلى مربيات أجنبيات لا يهمهم سوى صحة الطفل والعمل على تسليته بالوسائل الإلكترونية الحديثة فإن هذا هو الذى يحدث فراغا تربويا هائلا فى نفس الطفل العربى ، وتجعل شخصيته هشة بحيث يمكن لأى ريح أن تخترقها وتدمرها.
2- التعليم الذى يجمع بين الأصالة والمعاصرة : اندفع أولياء الأمور حديثا إلى إرسال أبنائهم إلى المدارس والجامعات الأجنبية التى تقدم تعليما معاصرا ومتطورا ، وقد تكون نواياهم حسنة ، حيث يريدون لأبنائهم ضمان مستقبل باهر ، يدر عليهم دخلا ماديا كبيرا . ولعلهم معذورون فى ذلك ، لأن التعليم الحكومى فى معظم البلاد العربية قد تخلف كثيرا عن ركب المعاصرة ، ومازال يجتر معلومات ومعارف قديمة ، لا يصلح الكثير منها للعصر الحاضر بإنجازاته العلمية الهائلة ، ومستحدثاته التكنولوجية غير المسبوقة .
فى المدارس والجامعات الخاصة والأجنبية يهتمون كثيرا باللغات الأجنبية التى تدخل الطالب مباشرة فى قلب العالم المعاصر ، لكنهم يكادون يغفلون المقررات الدراسية التى تكون الهوية العربية ، وتؤكد على جوانب الأصالة الثلاثة ، وهى الدين واللغة العربية والتاريخ العربى .. وقد تكون هذه الجوانب موجودة – على نحو ما – فى التعليم الحكومى ، لكنها تفتقد روح المعاصرة التى أشرنا إليها . وبذلك فإننا أمام مشكلة ذات وجهين : تعليم حكومى متخلف ، توجد فيه بعض عناصر الأصالة ، وتعليم خاص وأجنبى متطور لكنه يكاد يخلو من الأصالة . وهذا الوضع الحالى هو الذى يخرج لنا – مع الأسف – آلاف الخريجين المنقسمين فى المجتمع إلى فئتين متباينتين : إحداهما تعيش فى الماضى ولا تعـايش الحاضـر ، والثانية تعيش فى الحاضر لكنها بعيدة تماما عن أصالة الماضى .
إننا فى هذه النقطة بالذات نحاول أن ننبه إلى خلل واضح وخطير فى التعليم العربى ، ومن واجب المسئولين عنه أن يتداركوا الوضع ، وأن يعملوا قبل فوات الأوان على تدارك الحالة . فالتعليم – كما ندرك جميعا – هو بوابة عبور أى أمة إلى مستقبل زاهر ، ومكانة محترمة فى منظومة العالم المعاصر.
3– الإعلام المتطور الذى يحافظ على الثوابت : لقد أصبح الإعلام المعاصر مع التعليم من أهم وسائل التثقيف فى المجتمعات الحديثة . وفى كثير من الحالات يتداخل الإعلام مع التعليم ، فهو الذى يزود أفراد المجتمع بالمعلومة الصحيحة ، ويستعرض أمامهم آخر المستجدات ، كما يحلل لهم الأحداث ، ويقدم لهم مختلف الشخصيات ذات التأثير الكبير فى حياتهم .
والإعلام العربى بوسائله المتعددة – من صحافة وإذاعة وتلفزيون – لم يتخلف كثيرا عن نظيره فى مختلف بلاد العالم المتقدمة . فهو يمتلك مثلها تماما نفس الأجهزة ، ويستخدم نفس الأدوات والوسائل التقنية المتطورة ، لكنه من حيث المضمون يندفع بصورة جنونية إلى محاكاة الإعلام الغربى فى جانب واحد من جوانبه ، وهو جانب التسلية، دون أن يركز – كما كان ينبغى – على سائر الجوانب الأخرى التى تتصل بالمعرفة ، والتربية ، والتثقيف السياسى والاجتماعى ، والتواصل المباشر مع مختلف شعوب العالم .
إذن يستطيع الإعلام العربى باستعانته بالتقنيات الحديثة ، والتزامه بالمهنية الإعلامية ، إلى جانب محافظته على ثوابت الأمة العربية أن يقوم بدور هام للغاية فى دعم الهوية العربية ، وتأكيد ثوابتها فى نفوس الأجيال الناشئة ، وذلك من خلال عرض المفهوم الصحيح والمتكامل للإسلام ، وتقديم الجوانب المشرقة من صفحات الحضارة العربية ، وإلقاء الضوء على الشخصيات المتميزة فى المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والعلمية التى أسهمت بدور فعال فى تاريخ الأمة العربية ، والكفاح الوطنى ، كذلك من أهم واجبات الإعلام العربى أن يكتشف المواهب العربية فى مختلف المجالات ، وأن يبرز آليات وإنجازات العمل الجاد ، بدلا من ذلك التركيز المبالغ فيه على نجوم الفن والرياضة وحدهم .
لكن إلى جانب وسائل الإعلام التقليدية . . أصبحت موجودة وبقوة وسائل التواصل الاجتماعى الإلكترونى الجديدة ، مثل شبكة الانترنت ، والفيس بوك ، والتويتر .. وقد أصبحت هذه الوسائل تجذب ملايين الشباب فى كل أنحاء العالم، ولم يشذ عن ذلك الشباب العربى ، ولذلك ينبغى على المسئولين فى الدول العربية أن يعطوا الاهتمام اللازم لهذه الوسائل ، وكيفية التعامل معها ، وهذا مجال لم يتم اقتحامه بعد ، بالإضافة طبعا إلى التطوير المستمر فى وسائل الإعلام التقليدية .
4– القوانين المحلية التى تتمشى مع الدين والأخلاق: من المقرر أن قوانين كل بلد فى العالم لابد أن تنبع من قيمه وتقاليده ، وترتبط مباشرة بظروفه وأحواله . وقد مرّ زمان طويل على الأمة العربية وهى تتبع هذا القانون ، حتى تعرضت فى القرن التاسع عشر الميلادى إلى هجمة الاستعمار الغربى على معظم بلادها ، فعمل على استنزاف مواردها ، وتبديد طاقتها ، وتغيير قوانينها وهو الأمر الذى جعل هذه القوانين لا تعبر عن الشعوب التى تطبق عليها . وحتى عندما حصلت البلاد العربية على استقلالها فإنها لم تنجح تماما فى تخليص القوانين المعمول بها من آثار القوانين الأجنبية التى أدخلها المستعمر أثناء تواجده فى تلك البلاد .
إن من أهم إحداث التوازن فى نفوس الأجيال الجديدة هو أن يجدوا قوانين مجتمعاتهم تتمشى بصورة طبيعية ومنطقية مع تعاليم دينهم ، وما تدعوهم إليه منظومة القيم والأخلاق الموجودة منذ مئات السنين فى تلك المجتمعات . وهنا لابد من إقرار حقيقة مؤكدة ، وهو أن الدين الإسلامى بتشريعاته العادلة وروحه السمحة يضع فى أيدى رجال القانون العرب أفضل الوسائل والإمكانيات لتحديد وبلورة القوانين التى تحكم المجتمعات دون أى تناقض فيما بينها ، ودون أى تعارض مع ما يعترف به العالم كله من مبادئ حقوق الإنسان .
القانون هو الذى يحدد لكل أفراد المجتمع مالهم من حقوق وما يفرض عليهم من واجبات. وهو الذى ينظم العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية داخل الدولة ، كما يضبط علاقاتها مع سائر دول العالم ، لكنه قبل ذلك كله هو السياج الذى يبعث فى نفوس المواطنين الأمن ، ويشيع الاستقرار ، لذلك ينبغى أن نبذل كل الجهود الممكنة لتنشئة الأجيال الجديدة على احترام القانون ، وتعميق الثقة فيه ، باعتباره المظلة التى تحمى الجميع من فوضى الهمجية والاضطراب .
5– إبراز الجوانب المضيئة فى حضارة العرب : أذكر وأنا فى مقتبل الشباب اننى قرأت كتاب المستشرق الفرنسى جوستاف لوبون بعنوان ” حضارة العرب ” وهو كتاب ضخم ، ترجمه المرحوم عادل زعيتر والكتاب من القطع الكبير، المزود بالخرائط ، والمزين بالكثير من الصور. وهو يحتوى على معظم جوانب الحضارة العربية تقريبا، مع التركيز بصفة خاصة على آثارها المعمارية التى مازالت بعض بقاياها قائمة حتى اليوم ، كذلك على التحف والمصنوعات التى تؤكد مدى ما وصل إليه الصانع العربى ، والفنان العربى من تقدم وإتقان .
ومن الغريب أن هذه الحضارة العربية الإسلامية التى استمرت أكثر من ألف عام ، وهى تنشر أنوارها فى العالم كله ، قد تم تجاهلها ومازال فى الغرب، فهم هناك لا يعرفون عنها إلا القليل جدا، والسبب فى ذلك أنهم يقصرون حضارتهم على الفترة اليونانية – الرومانية ، ثم يقفزون مباشرة إلى عصر النهضة ، فالعصر الحديث والمعاصر. وبذلك فإنهم يسقطون فترة الحضارة العربية – الإسلامية التى تتوازى مع ما يسمونه فى تاريخهم فترة العصور الوسطى !
إن حضارة العرب الإسلامية تحتوى على الكثير جدا من الصفحات المشرقة ، والمعالم الباهرة التى تشيع فى نفوس أبنائها المعاصرين الاعتزاز بانتسابهم إليها . ومن المتوقع أن يدفعهم الاطلاع عليها ، والتعايش معها إلى جانب محاكاتها والانطلاق منها إلى آفاق أخرى أكثر عزة واشراقا . لذلك فمن واجب العرب اليوم أن يقوموا بجلاء جوانب هذه الحضارة ، وإلقاء الضوء الكافى على إنجازاتها المادية والعلمية والثقافية ، مع تقريب الشخصيات التى ساهمت فى بنائها من الأجيال الجديدة حتى يتزودوا بها ، ويجعلوها مثلا عليا لهم .
خاتمة : تلك هى – فى رأينا – أهم العوامل التى يمكنها أن تساعد فى تدعيم الهوية العربية . وكل عامل منها له تأثيره المحدود ، لكنها فى تضافرها مع بعضها تصبح قوة دافعة لإحداث النتائج المرجوة ، ولذلك فإنها بحاجة إلى أن تصبح جزءا من استراتيجية متكاملة ، وذات بعد مستقبلى ، وأن توزع تلك العوامل على أجهزة ووزارات متخصصة لكى تقوم بتنفيذها على النحو المطلوب . والمهم أن يعمل الجميع بإيقاع واحد متناغم ، ودون أن ينفرد جهاز او وزارة بتحقيق كل هذه الأهداف بمفردها ، كما يحدث حاليا فى كثير من البلاد العربية ، وهذا ما يجعلها تظل تنادى بالشعارات ، دون ان يتحقق مضمونها الفعلي على أرض الواقع .
المصدر: موقع الدكتور حامد طاهر