سميرة المسالمة
لا تختلف أحداث المسلسل الذي نتابع تفاعلاته مع تصريحات المبعوث الأميركي إلى سورية، جيمس جيفري، كثيراً عن أحداث مسلسل “خمسة ونص” للكاتبة إيمان السعيد، والذي يبدأ من تفاصيل سورية، ثم ينتقل ليعيش يوميات القمامة اللبنانية، منهياً حياة بطلته في نفقٍ طويل، يوزّع قاتلها الموت على كل من حوله، وحيث تكثر المصادفات التي تجمع بين مجريات الأحداث اللبنانية في الوقائع المذكورة على الحلقات الممتدة على أيام السهرات الرمضانية، مع آلية وصول بشار الأسد إلى رئاسة سورية، بعد حادث مروري مريب لا يزال قيد الشكوك لشقيقه باسل الذي كان حافظ الأسد قد هيأ له كل الإمكانات لمسك خيوط الدولة العميقة في سورية، قبل أن يخالف إرادته القدر “المدبّر”، ليكون سبباً في إعادة ترتيب شؤون توريث النظام من الأب المريض إلى الابن المغيب عن شؤون سورية سنوات طويلة.
وبالقدر نفسه، فإن مصادفات تحريك الولايات المتحدة ملف سورية تتلازم دائما مع التصعيد الإسرائيلي ضد إيران، أي الانتقال من الملف السوري إلى الملف الإيراني، وبما يضمن مصالح إسرائيل فقط في المنطقة في سياق السيناريو المعدّ لتجديد “تخريب” شكل المنطقة، وإعادة صياغة أولوياتها، بعيداً عن وجود إيران التي نمت في المنطقة بفعل الوجود الأميركي فيها، وليس خلافاً لذلك، ما سمح لإسرائيل باستثمار الوجود الإيراني لإحداث النعرة الطائفية في المنطقة العربية، وجعلها مثار الخلاف الأول بين الأطراف المحلية التي هتكت ستر الهدوء السطحي الأمني في الدول العربية.
ولعل ما يمكن ملاحظته، مع كل عودة للولايات المتحدة إلى الملف السوري، أنه يبدأ من الأحداث المتصاعدة في سورية، بينما هو غارق في تفاصيل حربها مع إيران بالنيابة والتكافل والتضامن مع إسرائيل، على الرغم من أن هذه الحرب حتى اليوم لم تحرّك من موقع إيران في المنطقة عموماً، وفي سورية تحديداً قيد أنملة، بل على العكس، فالولايات المتحدة اليوم، والتي يمثلها جيفري في الملف السوري، تمد يداً لتركيا وأخرى لروسيا، في وقتٍ تقف فيه إيران في “النص”، أي وسط تركيا وروسيا ثالثا مكملا لتحالف ما سمي مسار أستانة، والذي نتج عنه تمدّد إيران في سورية في كل المناطق التي كانت تحت مسمّى “محرّرة” قبل أن يغتالها ما سمي اتفاق خفض التصعيد، الموقع بين حليفتي الولايات المتحدة الأميركية اليوم (تركيا وروسيا) مع عدوها (إيران).
وكما خلط المسلسل بين واقع نظام سورية البنيوي وواقع لبنان الغارقة عاصمته في ملف القمامة، فإن الإدارة الأميركية تخلط بين ضرورة الحل في سورية، والذي يستمد شرعيته من إرادة شعبه في بناء منظومة حكمه الجديدة، ومن القرارات الأممية التي زادت عن 17 قراراً لإنهاء الصراع في سورية، ورغبتها في صناعة صورة إسرائيل الجديدة من خلال اجتماع القدس الثلاثي (الإسرائيلي والأميركي والروسي) ضد إيران التي تحتل كذلك مرتبة الصدارة في عدائها مع السوريين، بصفتها الداعمة للنظام على أساس طائفي، ومع الخليج العربي الذي يرى في نموها تهديداً لمصالحه في المنطقة، ما ينقل إسرائيل من مرحلة اللعب تحت الطاولة إلى فوق الطاولة، حيث تضطلع بدور المحرّك لعمليتي الحرب والسلام في المنطقة، وتنتقل من على أجندة العرب من دولة احتلال إلى شريكٍ مؤسسٍ لتحالفات القوى الاقتصادية الجديدة التي وقعت على صفقة القرن أو (للدقة “صفاقة القرن”).
يقدّم الاجتماع المعلن عنه في القدس بين الدوائر الأمنية الثلاث (الإسرائيلية والأميركية والروسية) شرحاً تفصيلياً لمستقبل المنطقة المستولى عليه اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وحتى أمنياً، وبينما تحاول روسيا من خلاله استعادة حضورها دولة عظمى تقارع الولايات المتحدة الأميركية، وتزاحمها على نفوذها في إسرائيل وفي سورية، مقابل انتزاع تنازلاتٍ منها في ملفات اقتصاديةٍ وسياسيةٍ في أوروبا وأوكرانيا والبلطيق وبرنامج الدرع الصاروخي، وحيث مكّنت إسرائيل روسيا من لعب دور الوسيط الضامن في حدودها مع سورية ولبنان، وحولتها في أوقاتٍ كثيرة إلى صندوق بريد، تتراسل من خلالها مع إيران، فإن الولايات المتحدة لا تزال تستخدم روسيا من خلال الشراكة معها تارّة، والوقوف في وجه تحالفاتها تارة أخرى، كمجرد أداة تحقّق مشروعها في تغيير خريطة العلاقات الدولية، وجهات التحالفات وجبهات المواجهات التقليدية محلياً وعربياً، وهو ما فعله المسلسل في استخدام الوجه الجميل للفنانة ندين نجيم، مع فارق الشبه مع الرئيس الروسي، بوتين، أداة موظفة في حرب قذرة.
وبينما تلوّح الإدارة الأميركية بيدها للصفقات المشتركة مع روسيا، حامية النظام السوري في القدس، فإن يدها الأخرى تلوّح بنزع النظام المذكور، بالشراكة مع حليفها التركي في أنقرة، أساسا لحل سياسي ينهي الحرب في سورية، حسب تصريحات المبعوث الأميركي جيمس جيفري لصحيفة حرييت التركية، أي أن الموقف الأميركي الذي يشارك روسيا في إسرائيل هو نفسه الذي يعادي حليفتها إيران في دمشق وبيروت، ويتقارب من شريكتها تركيا في أستانة، وخصمها “الصامت” حالياً في إدلب، ما يضع موسكو في تصعيدٍ دراميٍّ محترف، يترك فرصة للمشاهد “الضحية” أن يكون جزءاً من الحدث، وليس تابعاً له. وحيث يطلب منها الانتحار على حبل شراكاتها مع كل من إيران وتركيا في أستانة، وينقل بندقية موسكو التي تقتل السوريين جنباً إلى جنب مع إيران، لتصبح في مواجهة شريكتها هذه، دعماً للموقف الإسرائيلي الأميركي، والانتقال من لعب دور الداعم للنظام إلى مؤسّس في عملية سلام تهدّد فعلياً أركان نظام الأسد، من الرئيس حتى حاشيته، و”تشكيل اللجنة الدستورية” التي تستحوذ فيها تركيا وروسيا على نسبة تمثيلٍ عالية، من خلال تسميتهما كثيرين من أعضائها المحسوبين على حصة المعارضة السورية من جهة تركيا، والنظام من جهة أخرى روسية، بينما تأخذ إيران الثلث الثالث من اللجنة تعويضا معنويا لها عن الحرب الإعلامية المؤلمة ضدها.
لا تختلف كثيراً نهايات الدراما التي عرضت خلال شهر رمضان المنصرم، والمعلنة عن خراب منظومة القيم في المجتمعات العربية، عن وقائع حياتنا اليومية، وبالتحديد مشكلتنا السورية مع “مقاومة” لبنان في سورية، بل تكاد هذه “الدراما” تتشارك معنا الجلوس على الأريكة نفسها، لتشاهد خرابنا، دولا وبنى اجتماعية، وتبادلنا نظرات الحسرة، أنه تم صناعة جسر من حرية السوريين المنشودة بالتشارك مع النظام، عن قصد أو من دونه، ليكون مطية لصراع الدول، بينما ذبحت سورية والسوريون على مائدة حوار ثلاثي في قدسنا المسروقة، يستطيل ظلها حتى لا يترك أيا من دول أصدقاء سورية المستغربين والمستعربين، من دون أن يجلسها تحت عباءته، فأصبحنا كالمستجير من الرمضاء بالنار.
المصدر: العربي الجديد