عبد الباسط سيدا
ما تجاهله السوريون الثائرون على النظام الأسدي هو الدور الرئيس للعامل الإسرائيلي في تحديد هوية ووظيفة وهامش التحرّك لأي نظام حكم، وسيحكم، بلادهم في ظل موازين القوة الحالية والحسابات والاحتمالات المستقبلية المبنية عليه. هذا على الرغم من إدراك النخب السورية لاستحالة إجراء تغيير نوعي لطبيعة الحكم في سورية بموجب الإرادات الدولية من دون الموافقة الأكيدة، الصريحة أو الضمنية من الجانب الإسرائيلي الذي يعتبر الساحة السورية جزءاً من مجاله الأمني الحيوي الخاص، وبالتالي هو يعتبر نفسه، وبالتفاهم مع الحليف العضوي الأميركي، صاحب القرار بالتدخل، أنّى ومتى وكيفما وحيثما شاء.
وهكذا، غدا العامل الإسرائيلي في الحالة السورية من الموضوعات الحسّاسة التي ينبغي السكوت عنها، سواء بالسلب أم الإيجاب داخل أوساط المعارضة، فمن ناحيةٍ هو إدراك بصعوبة التغيير من دون القبول الإسرائيلي. ومن ناحية أخرى، هي الالتزامات الوطنية، والاعتبارات النفسية والعاطفية؛ ولكن الأهم من هذا وذاك عدم وجود قيادة قوية تحظى بشعبية كبيرة، ومصداقية لا يشكّك فيها، كان في مقدورها اتخاذ القرارات الصعبة، والدخول في تفاهماتٍ مع الجهات الدولية المعنية. هذا في حين أن النظام أبدى، منذ الأيام الأولى للثورة، استعداده للاستمرار في دوره السابق، المبني على التفاهمات مع إسرائيل، بل كان مستعداً للدخول في صفقةٍ جديدة، وبشروطٍ جديدة، وعلى حساب المصلحة الوطنية السورية بطبيعة الحال، مقابل بقائه في السلطة.
ونحن إذا عدنا بالذاكرة قليلاً، وتوقفنا عند جملة مقدّمات وخطوات، كانت تبدو متنافرة ومتعارضة في مناخات التفاؤل والقراءات الرغبوية، وظروف الانشغال، وعدم وجود التنظيم المتماسك، وغياب القيادة القادرة على التوجيه، ووضع استراتيجية وطنية، والالتزام بها، كل ذلك أدّى، في أحيانٍ كثيرة، إلى عملية غض الأنظار عن التدخلات الكبرى التي كانت على جميع المستويات، وفي أدقّ التفاصيل، حتى بما في ذلك التي كانت تخص الأوضاع والمجالس المحلية، إلا أن الذي تبين لاحقاً أن المقدمات المعنية كانت متكاملةً من جهة الوظائف والأهداف، الأمر الذي يؤكد وجود خطة استراتيجية تم التوافق على خطوطها العامة على الأرجح، وما زالت ملامحها وأبعادها تظهر تباعاً، فاتهام المتظاهرين، منذ اليوم الأول، بالإرهاب والأسلمة لم يكن اعتباطاً. وفرض العسكرة على الثورة لم يكن مصادفة. كما أن الإصرار على إبعاد المكونات السورية خارج نطاق المكون العربي السني عن الثورة لم يكن جزافاً. وإطلاق سراح المتشدّدين من الإسلاميين من السجون، سيما من سجن صيدنايا، لم يكن قطعاً بغرض إبداء حسن النية من النظام. وعمليات تسهيل إرسال السلاح غير النوعي إلى الداخل السوري لم تكن من أجل سواد عيون الثائرين على النظام. والقرار الحازم الصارم أميركياً بمنع إدخال السلاح المضاد للطيران، ولا بأي شكل أو بأيٍّ من آليات الضبط والتحكم والتيقن من هوية الجهة المستخدمة وغرضها، ما زال يثير ألف سؤال وسؤال.
كما أن غض النظر عن استخدام النظام كل أنواع الأسلحة، بما في ذلك الكيميائية والصواريخ الباليستية، وبراميل البارود، واستمرار النظام في ذلك نحو خمسة أعوام متتالية؛ ذلك كله لا يندرج في دائرة الصدف المتزامنة. هذا في الوقت الذي أثار، ويثير، أسئلةً وملاحظاتٍ كثيرة ظهور “داعش” الهوليوودي، وتحرّكاته الاستعراضية بناقلات جنده ومدرعاته، وصهاريجه، تحت مرأى ومسمع أحدث أجهزة الرادار والتنصت والأقمار الصناعية المتعدّدة الجنسيات.
من جهة ثانية، كان دخول مليشيات حزب العمال الكردستاني في وضح النهار إلى المناطق الكردية بموجب اتفاقية تسليم واستلام مع النظام، وبناءً على موافقات القوى الدولية والإقليمية المعنية؛ ومن ثم دخول مليشيات حزب الله بذريعة حماية المزارات والمراقد المقدسة، بناء على طلب النظام، وبالتنسيق الكامل معه. ومن ثم دخول المليشيات العراقية والأفغانية والقيادات والقوات العسكرية والأمنية الإيرانية، والصمت الإسرائيلي والأميركي والروسي عن ذلك، على الرغم من التباينات المعلنة، ذلك كله لا يمكن فصله عما سبقه من خطوات، وما تبعه من نتائج.
وبعد إخفاق كل تلك الخطوات والإجراءات في إبعاد مخاطر السقوط عن النظام الذي كان يواجه غالبية السوريين على المساحة السورية الواسعة نسبياً (حوالي 185 ألف كم مربع)، كان القرار بدخول الروس بكامل عدتهم إلى الميدان. ولم يكن دخولهم بعيداً عن التفاهمات والتوافقات مع الجانبين، الأميركي والإسرائيلي. وكان ذلك بناءً على قواعد واضحة بالنسبة إلى الأطراف الثلاثة من جهة تمركز القوات، ومسارات الطيران، وحدود مناطق النفوذ، وصلاحيات كل طرف. وعلى الرغم من المناوشات والاختراقات التي كانت تحدث أحياناً هنا وهناك، كان الانطباع العام أن الأمور مبرمجة، مرتبة بطريقةٍ تؤكد تكامل الأدوار، على الرغم من تباين الإعلانات والمواقف.
ودخل الروس بقوتهم التدميرية الضاربة، واستعرضوا تكنولوجيتهم العسكرية وتباهوا بها، وعملوا، ويعملون، على إقناع دول المنطقة بشرائها في خطوةٍ تستهدف التغلغل إلى المناطق التي تعتبر مجالاً حيوياً للنفوذ والوجود الأميركيين، في رد على ما تُقدم عليه الولايات المتحدة من امتداد وانتشار في المناطق الاستراتيجية المحيطة بروسيا، مثل بولونيا وأوكرانيا وجورجيا وغيرها من المناطق، المحاذية أم القريبة من حدود الاتحاد الروسي.
لم يكن الروس يوماً بعيدين عن الوضع السوري الداخلي، فقد كانوا يمدّون النظام بالأسلحة، ويغطونه سياسيا، ولكن تدخلهم العسكري المباشر المفتوح كان في 30 سبتمبر/ أيلول 2015، بعد أن تبينت لهم صعوبة إنقاذ نظام بشار اعتماداً على المليشيات من الأذرع الإيرانية والقوات الإيرانية نفسها. وكان من الواضح أيضاً، منذ اليوم الأول، أن التدخل الروسي ما كان له أن يحصل، لولا التفاهم مع الأميركان والإسرائيليين الذين وجدوا في التدخل الروسي عاملاً مساعداً في إبعاد الوجود الإيراني القوي عن سورية، أو على الأقل تحييده، استعداداً لتفاهمات جديدة، تخص الوضع العراقي، ووضع الإقليم بصورة عامة، وربما على المستوى الدولي بصورة أعم. وبناء على ذلك، ليس مستبعدا أن يكون الوجود التركي، هو الآخر، بنداً على جدول أعمال اللقاءات الأمنية العسكرية الثلاثية، الأميركية الروسية والإسرائيلية. فقد تكون هناك صيغة من صيغ المقايضة يتوافق عليها الجانبان، الروسي والأميركي، لإخراج إيران من سورية، في مقابل إخراج الأتراك، والتفاهم على قواعد جديدة للعبة الشد والجذب في سياق إرهاصات الحرب الباردة الجديدة التي بدأت ملامحها تلوح في الأفق، سواء في أوروبا أم أميركا اللاتينية ومنطقة الشرق الأوسط، وحتى في أفريقيا، فلا يمكن عزل ما يجري راهنا في كل من السودان والجزائر وليبيا عن كل ما يجري في منطقتنا والعالم.
والملاحظ أن الاستراتيجية الروسية هي ذاتها منذ اليوم الأول للثورة السورية، وهي تتمحور حول الدعوة إلى عدم التدخل في الشؤون الداخلية، وترك مسألة الحكم لأبناء البلد، كما تفعل اليوم في الموضوع السوداني؛ وهي دعوةٌ تترافق من الجانب الروسي بالالتزام بدعم الأنظمة الاستبدادية، وتمكينها من الاستمرار عبر قمع المعارضين، بل أكدت روسيا، في المثال السوري، أنها على استعداد للتدخل السافر إذا ما لزم الأمر، على الرغم من كل حديثها البائس عن أهمية وضرورة عدم التدخل في شؤون البلدان والشعوب.
المصدر: العربي الجديد