براء صبري
لا تطوى صفحة من صفحات الحرب السورية حتى تكون الجديدة أكثر تعقيداً. طلاسم لا تنتهي من التدخلات الخارجية، وملفات مترابطة تمتد على طول الخريطة العالمية. ورغم ان ملامح الكثير من المناطق الجغرافية في سوريا قد ارتسمت وبدت واضحة للجميع إلا أن البقع الجغرافية غير المستقرة بعد تؤرق الجميع، وتجعل من باقي المناطق شبه المستقرة في حيرة من مصيرها. ورغم ان النظام السوري حصل على القطعة الكبرى من الجغرافية السورية بسيطرته على ما يقارب الستين في المئة منها، بدعم روسي وإيراني مكثف، وعلى الرغم ان قوات سوريا الديمقراطية تسيطر على ما يقارب الثلاثين في المئة من الجغرافية السورية وعلى ما يقارب النصف من الاقتصاد الكلي في البلاد، ورغم ان تركيا قد اكتسبت موطئ قدم راسخ فيما يبدو في شمال حلب وعفرين إلا إن محافظة إدلب في الشمال الغربي من البلاد، وجزء من شمال محافظة حماة، وشرق محافظة اللاذقية، والتي تسيطر عليها فصائل إسلامية سنية متشددة كهيئة تحرير الشام والحزب الإسلامي التركستاني وبرقابة رسمية تركية ، وتوضح مدى هشاشة العلاقات الدولية التي تعتمد على توزيع النفوذ في سوريا وخاصة العلاقة بين روسيا وتركيا من جهة وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية من جهة ثانية.
وتعتبر محافظة إدلب، شمال غرب سوريا من آخر المعاقل العسكرية لمعارضي نظام الأسد والخارجة عن سيطرة النظام حتى اللحظة. ورغم إن أقوى الجماعات المسيطرة هناك هي جماعات متطرفة وتمارس شكلا مخيفا من السيطرة على السكان في المنطقة إلا إن الأتراك يحاولون إبقاء تلك المنطقة ضمن نطاق نفوذهم، وبعيدة عن سيطرة النظام وإيران وروسيا.
في 15 أيلول/سبتمبر 2017 أعلنت الدول الضامنة لمسار أستانا (روسيا وتركيا) توصلها إلى اتفاق على إنشاء منطقة خفض توتر في محافظة إدلب، وفقا لاتفاق موقع في مايو/أيار 2017. وجرى الاتفاق في ختام الجولة السادسة من مفاوضات أستانا بشأن الأزمة السورية.
واتفقت الدول الثلاث على نشر مراقبين في إدلب لضمان احترام وقف إطلاق النار بين المعارضة وقوات النظام. وقالت وزارة الخارجية التركية وقتها في بيان إن مراقبين من الدول الثلاث سينتشرون في نقاط تفتيش ومراقبة في المناطق الآمنة على حدود منطقة خفض التصعيد بإدلب الخاضعة لسيطرة المعارضة، مضيفة أن مهمتهم هي “منع وقوع اشتباكات بين قوات النظام والمعارضة أو أي انتهاك للهدنة”.
ومع مرور الوقت كانت تلك المنطقة تتعرض إلى هجمات من قبل طائرات النظام، وتحدث مناوشات بين الحين والآخر بين الجماعات المعارضة للأسد وبين قوات الأسد. ورغم أن المعركة هناك تأخذ طابع التقدم المتقطع إلا إن العديد يربطون مصير المنطقة بمصير العلاقة الروسية التركية، ولا يجدون في ميزان القوى على الأرض أي دور في المعركة.
وبعد ذلك بعام تقريباً، توصل الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب اردوغان، إلى اتفاق يقضي بإنشاء منطقة منزوعة السلاح في محافظة إدلب، لتجنب الحرب في تلك المحافظة التي يبلغ عدد سكانها في الوقت الراهن ثلاثة ملايين نسمة.
وحسب ما صرح به بوتين حينها، فإن تركيا ستقوم بإخراج جميع الفصائل الجهادية وستنزع الأسلحة الثقيلة من دبابات وصواريخ ومدافع هاون التي في حوزة تلك الجماعات. وستقوم وحدات من الشرطة الروسية والتركية بمراقبة المنطقة منزوعة السلاح، وتنسحب جميع الفصائل المسلحة من تلك المنطقة بما فيها هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا).
وأضاف بوتين وقتها أنهم سيعملون على فتح حركة المرور بين حلب واللاذقية، وبين حلب وحماة قبل نهاية عام 2018.
وفي الوقت نفسه أشاد اردوغان بالموقف الروسي، وأكد أن التفاهم حول إدلب سيدعم التسوية السياسية وفقا لقرار الأمم المتحدة رقم 2254 وأن أنقرة وموسكو ستعملان على تطهير المنطقة من “الإرهابيين” على حد تعبيره.
وأضاف: “سنعزز نقاط المراقبة في تلك المناطق ونحارب الإرهاب بالتعاون مع روسيا، وبفضل هذا الاتفاق، سنحول دون وقوع كارثة إنسانية في إدلب”.
ورغم مرور ما يقارب عامين على الاتفاقين إلا أن الوضع في تدهور أكثر في المحافظة المتخمة بالنازحين القادمين من المناطق السورية الأخرى، وبالمقاتلين من ذوي الخلفيات المختلفة. حيث سجلت وكالات الأخبار ووسائل الإعلام خلال الشهر الماضي عشرات الهجمات، ولم تهدأ الطائرات الروسية والتابعة لقوات النظام في ضرب المنطقة، وفي التحليق في سمائها. رغم الدعوات التركية والمناشدات الدولية للتوقف عن الهجوم.
مع الوقت، وتصاعد ترسيخ التحالف الدولي ضد الإرهاب الذي تقوده واشنطن في تعزيز تواجده العسكري والسياسي في شرق الفرات، وفي تعزيز علاقاتها مع قوات سوريا الديمقراطية بعد القضاء على الوجود الرسمي لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” الإرهابي في المنطقة يزداد التوتر في طبيعة العلاقة التركية الأمريكية، وفي طبيعة العلاقة التركية الروسية. اتجه الأتراك إلى الروس بعد حادثة إسقاطهم لطائرة روسية على الحدود السورية التركية، وبعد يأس تركيا من تبني واشنطن لرؤيتها الخاصة بسوريا. اتجهت واشنطن إلى دعم وحدات حماية الشعب وفيما بعد قوات سوريا الديمقراطية في شرق الفرات ضد “داعش” بعد ان يئست هي الأخرى من التوجهات المتطرفة للجماعات المعارضة التي تدعمها تركيا في شمال سوريا. هذا التوجه قابله توجه تركيا نحو روسيا وحصلت من خلاله أنقرة على منطقتي درع الفرات ومنطقة عفرين مقابل شرق حلب والغوطة الشرقية للنظام. لكن، مع ترسخ الصورة السياسية والعسكرية في شرق الفرات، ومحاولة واشنطن ترطيب العلاقات بين “قسد” وأنقرة لتسهيل مهمتها في شمال سوريا طُرح موضوع المنطقة الآمنة في شمال سوريا. كان ملف المنطقة الآمنة في شمال سوريا قد طُرح في سنوات سابقة، ولكنه دخل طي النسيان. ورغم ان واشنطن تدرك بعمق مدى العدوانية التركية لوجود كيان قريب من الأكراد في شمال سوريا، ولكنها تسعى لحلول وسط بين الطرفين تمكنها من الاحتفاظ بحلفائها كلهم معها.
ومع تسرب المواقف، وحديث الأتراك عن تفهم أمريكي لمخاوفهم، وحديث قائد قوات سوريا الديمقراطية في الثالث من أيار/مايو عن وجود مفاوضات غير مباشرة بينهم وبين تركيا اشتعلت المعارك في إدلب. كان الروس يعتقدون ان الصمت على التقارب بين تركيا وواشنطن سيخسرهم تحالفهم التكتيكي مع تركيا. الخيار الوحيد المتوفر هو الضغط على تركيا للتراجع. بدأت الهجمات بصورة جنونية على إدلب، وكان الضغط الإعلامي والإنساني يحرج تركيا ويدفعها للتخبط. لم تستطع تركيا التي تدير 12 نقطة مراقبة عسكرية في كامل إدلب فعل شيء سوى محاولة الحديث عن فتح باب التفاوض مع موسكو من جديد.
ورغم محاولة تركيا موازنة علاقاتها مع واشنطن وموسكو إلا أن ذلك في الواقع لم ينجح حتى اللحظة. تضغط واشنطن على تركيا للانسحاب من صفقة شراء نظام الصواريخ الروسية اس 400 للاستفادة من الطائرات الأمريكية الجديدة، وتضغط عليها للتباعد مع إيران اقتصادياً، ومع ان تركيا تدرك ان خسارة واشنطن تعني خسارة الغرب الأوروبي كاملا إلا أنها لا تجد القدرة على التخلص من مخالب بوتين.
وحسب التقارير الأخيرة وصل عدد الضحايا في إدلب إلى 360 شخصا والدمار الذي ألحقته بالمراكز الصحية، والمناطق المدنية الطائرات الروسية والطائرات التابعة للنظام السوري يظهر عجز تركيا عن حماية تلك المنطقة، والتخلص من تحالفاتها مع روسيا.
ظلت تركيا بدون أن تفعل شيئا في وجه تمدد هيئة تحرير الشام المصنفة إرهابية مع مثيلاتها من جماعة حراس الدين والجيش التركستاني على حساب الجبهة الوطنية للتحرير وباقي الفصائل التابعة لتركيا ومن أمام مراكز المراقبة التركية، وهو ما زاد من موقف النظام السوري قوة، ووفر الحجج الكافية لتمدده، وللهجوم. ومع ان تركيا تدرك أنها ستحصل على وقت جديد في إدلب، وعلى متنفس جديد غير أن ذلك لن يفيدها على اعتبار قدرتها وقدرة حلفائها على ضرب هيئة تحرير الشام غير ذات جدوى، وهو ما سيسبب لها الكثير من الخسائر.
ومع ازدياد الدعوات التركية، والمناشدات الدولية لروسيا لوقف الهجوم، وعلى الرغم من ابتعاد واشنطن عن التدخل المباشر في قضية إدلب، أعلنت الحكومة الروسية في بيان صادر عن المركز الروسي للمصالحة في قاعدة حميميم العسكرية إنه تم التوصل إلى اتفاق للوقف التام لإطلاق النار والعمليات العسكرية في كامل منطقة إدلب، وتحدث البيان عن ان تطبيق الاتفاق يبدأ منذ ليلة الأربعاء الفائت.
ورغم التبجح الروسي بأن الاتفاق قد أدى إلى خفض مستوى العمليات العسكرية والعنف، أعلنت تركيا من خلال وزير خارجيتها مولود جاويش أوغلو في مؤتمر صحافي في فرنسا عن عدم حصول أي اتفاق على وقف إطلاق النار بين الطرفين وقال: “نسعى جاهدين مع روسيا لوقف هذه الهجمات. ليس ممكناً القول إنه تمّ التوصل إلى وقف كامل لإطلاق النار”.
واتهمت وزارة الدفاع التركية في 13 من الشهر الحالي قوات النظام السوري بمهاجمة نقطة مراقبة تابعة لها في إدلب بعشرات القذائف بصورة متعمدة، سببت ثلاث إصابات بين الجنود الأتراك وخسائر مادية.
وفيما يبدو ان الهدوء سيدخل حيز التنفيذ في إدلب بعد الحوارات التركية الروسية المكثفة، وبعد وضوح استمرار تركيا في صفقة الصواريخ الروسية على حساب الغضب الأمريكي منها، وبعد وعود من تركيا لروسيا بالعمل على إضعاف هيئة تحرير الشام في المحافظة! وقد ادعت بعض الأخبار يوم الخميس الماضي عن تدخل الطيران الروسي وبالتنسيق مع الجانب التركي في الهجوم على مواقع للمسلحين في محافظة إدلب.
وأفاد بيان أصدرته وزارة الدفاع الروسية بأن “التنظيمات المسلحة شنت مساء الخميس هجوماً على نقطة مراقبة للجيش التركي، في جبل الزاوية بمحافظة إدلب السورية. ما استدعى تدخلاً لتقويض قدرات المهاجمين”.
ورغم عدم تعليق الأتراك على البيان العسكري الروسي، ولكنه مؤشر على إطار جديد للعلاقات مع روسيا تكون فيه تركيا أكثر قرباً من موسكو عن واشنطن، وهو ما سيكون له مدلوله في باقي مناطق سوريا، خاصة ان واشنطن تعمل بهدوء في منطقة نفوذها شرق الفرات على تأسيس البنية المناسبة لحلفائها للدخول في مسارات التفاوض على مصير سوريا في مقبل الأيام.
مع الوقت وازدياد الدماء في شمال غرب سوريا تحاول الدول النافذة في الملف السوري العمل على احتواء الأمور، وتخفيف الخسائر مع وصول الآلاف من النازحين إلى الحدود التركية المحصنة بجدار عازل، ومع رسم الخطوط السياسية والعسكرية أكثر تدخل تركيا وحلفاؤها مسارا جديدا قد يكون عنوانه “ملف العمل المشترك ضد السياسات الأمريكية في المنطقة” وهو ما يعتقد البعض أنه مغامرة ستدفع إلى تدمير الاقتصاد التركي، وخسارة إدلب إما للجماعات الإرهابية أو للنظام السوري الذي لم يصمم للسيطرة على المنطقة بصورة جدية حتى اللحظة.
المصدر: القدس العربي