يقول الدكتور مروان الخطيب ” المجتمع السوري وصل إلى مرحلة غير مسبوقة من التفسخ والخراب، ولم تفلح جميع عمليات الورش للعدالة الانتقالية أن تولد مناخ ومفاهيم لكيفية بناء المجتمع ما بعد الثورة، وأعتقد بأننا لا زلنا في مرحلة صياغة رؤيتنا عن المستقبل، ومفهوم بناء المجتمع السوري بعد الثورة لازال بعيد عن مجال النقاش الجدي”.
بعد الذي جرى في سورية من قمع وقتل وهدر للإنسان السوري، وما تبعه وترافق معه من خلل في العلاقات الاجتماعية نتيجة سياسات النظام السوري، التي خربت العمارة المجتمعية، وشوهت الكثير من العلاقات والأنساق المجتمعية. وصولًا إلى اهتراءٍ في البنية الاجتماعية، وإشكالات مستمرة في ماهية العلاقات المجتمعية، وهو الذي أنتج ما أنتج من صدأ مجتمعي مازلنا نلمس آثاره بين الفينة والأخرى، كل ذلك دفعنا لسؤال بعض الباحثين السوريين والأساتذة الجامعيين عن رؤيتهم لهذا الواقع الاجتماعي، وإلى أين تمضي العلاقات الاجتماعية بين السوريين؟ ماهي مصائرها؟ وهل ستؤثر على بنية المجتمع بشكل عام؟
محمد نور حمدان الأستاذ الجامعي قال لجيرون” النظام السوري المجرم عمد إلى تفكيك بنية المجتمع السوري، ولقد ساهمت المواقف السياسية في تفكيك المجتمع السوري، ما بين منتمٍ ل(داعش) أو منتسب للنظام، أو منتسب للمعارضة، وساهم اللجوء والهجرة إلى أوروبا في تفكيك الروابط الاجتماعية والعلاقات الأسرية، وكذلك زواج القاصر والزواج من المجهولين”. وأضاف حمدان أن ” أمام المجتمع السوري تحدٍ حقيقي، وتواجهه صعوبات كثيرة لإعادة ما دمره النظام على المستوى الاجتماعي، وهذه المسألة تحتاج إلى وقت، وإلى إعادة تفعيل أهمية صلة الرحم، وتثقيف المجتمع بخطر تزوج القاصر، والتحريم من زواج المجهولين، والابتعاد عن التخوين والمزادات بين السوريين، إلا من ثبت تورطه بدماء السوريين، وبارتكابه جرائم بحقهم، حيث لا بد من المطالبة بمحاكمته محاكمة عادلة وفتح باب الصفح والعفو”.
الباحث السوري مروان الخطيب أكد لجيرون قائلًا” المجتمع السوري وصل إلى مرحلة غير مسبوقة من التفسخ والخراب، وللأسف لم تفلح جميع عمليات الورش للعدالة الانتقالية أن تولد مناخ ومفاهيم لكيفية بناء المجتمع ما بعد الثورة، و أعتقد بأننا لا زلنا في مرحلة صياغة رؤيتنا عن المستقبل، ومفهوم بناء المجتمع السوري بعد الثورة لازال بعيد عن مجال النقاش الجدي ويحتاج لكتلة مجتمعية متنورة تصيغ وتسوق مفهوم العدالة الاجتماعية الانتقالية، وتعيد ربط المجتمع من جديد بعيدًا عما اعتراه من أمراض التسلق والارتزاق على جراح الآخرين، وهنا أرى مهمة كبيرة في مواجهة الشرائح الثورية لأنها ستقتحم المجتمع (الموجود في مناطق النظام) وهو أكثر تماسكًا وأكثر عداوة للمجتمع المنهك، في المناطق المحررة، ناهيك عن الشرائح المجتمعية التي غادرت لبلدان ما وراء البحار”.
الباحث السوري محمد نور النمر قال لجيرون ” في (سورية الأسد) لم تكن هناك بنية اجتماعية فسيفسائية بما تعنيه من انسجام وتعايش مشترك بين مكونات تلك البنية، إنما كانت هناك بنى اجتماعية منفصلة ومتراصة لا يجمعها الرابط الوطني، بل يشكل الخوف من بعضها البعض أو الخوف من تلك السلطة رابطها الوحيد، فالنظام الأسدي هندّس المجتمع السوري على عقد اجتماعي وسياسي أساسه صناعة الرعايا الخائفة، كانت تحدد فيه مكانة الإنسان ودوره بمقدار الولاء والطاعة لتلك السلطة القامعة والمستبدة.” ثم أضاف نور ” هشّمت الحرب التي قام بها النظام ضد السوريين البنية الاجتماعية، حيث تشظت تلك البنية الاجتماعية ليس فقط إلى نازح ولاجئ، معتقل وشبيح، وقاتل وضحية، ثائر ومحتل، إنما أيضًا نكوصها إلى انتماءات طائفية وعرقية وعشائرية وحتى مناطقية تنتمي في مجموعها إلى مرحلة ما قبل الدولة. لذلك فإن المراهنة فقط على المنظومة القيمية للثورة السورية في صناعة بنية اجتماعية جديدة من خلال عقد اجتماعي وسياسي جديد يكون فيه الانتماء للوطن بديلاً للانتماء للقائد والحرية بديلاً للاستبداد، وهذا لا يتحقق إلا إذا حكمّت قيم المواطنة المجتمع السوري على أساس الأكثرية والأقلية السياسية، وليس على الأساس العرقي أو الديني والطائفي في مسألتي الحقوق والواجبات وغيرها من مسلمات الوعي الوطني”.
الكاتب والباحث السوري نبيل ملحم يقول لجيرون ” لابد من التأكيد على مجموعة من الحقائق والتي يأتي في مقدمتها أولًا: إن أكبر خطر واجهه السوريون وهويتهم الوطنية هو خطر انتقال المجتمع السوري من الدولة القائمة على عقد إذعان طائفي مستور برداء الدولة القومية إلى دولة المحاصصة الطائفية المكشوفة، فبعد خمسة عقود من عمل النظام في عهدي الأب والابن على تمزيق النسيج الاجتماعي السوري من خلال طحن وتفتيت وتزرير المجتمع والهوية الوطنية السورية في احشاء دولته الاستبدادية المعممة، حيث تم تحويل المجتمع إلى مجموعة غير متناهية من الخيوط المعزولة بعضها عن بعض، ولكن الممسوكة بقبضة المستبد الجالس على رأس السلطة والدولة. أقول بعد كل هذا العمل وبعد كل القتل والتدمير الذي ألحقه هذا النظام بالبشر والحجر وكل أنواع الوجود السوري المادي البشري والاقتصادي والعمراني والمعنوي الثقافي والروحي والتاريخي، أقول بعد كل ذلك علينا ألا نفكر ولو بلحظة واحدة أن هذا النظام يمكن أن يصل إلى مرحلة قد يوقف فيها من أعماله التي بدأها منذ أن اغتصب السلطة فهذا النظام الغاشم لا يمكن أن يوقف ما بدأه إلا من خلال خلعه وإسقاطه من على رأس السلطة والدولة، مع كل المرتكزات التي قام عليها”. ثم تابع ملحم يقول ” لا يمكن إعادة اللحمة للهوية الوطنية السورية وإعادة بناء النسيج الاجتماعي السوري المكون للهوية الوطنية بوجود هذا النظام. ثانيًا: إن خطر تمزق النسيج الاجتماعي السوري، وهو خطر قد يقود في الشروط الاقليمية والدولية الراهنة إلى تحويل هذا التفتت في النسيج الاجتماعي السوري، إلى تفتيت جغرافي وكياني تتحول من خلاله سورية إلى مجموعة من الدويلات المرتبطة بهذه أو تلك من القوى الاقليمية والدولية المتكالبة على تقاسم الكعكة السورية، وحيث هذا الخطر لا يشكله بقاء النظام فحسب، بل يشكله كذلك، ما يمكن أن نطلق عليهم الوجه الآخر من عملة النظام، وأقصد بذلك القوى الطائفية التي انخرطت في صفوف الثورة السورية، على هيئة فصائل إسلامية منها العسكرية التي سيطرت على المناطق الثائرة التي خرجت من تحت نفوذ وسيطرة النظام، ومنها السياسية التي هيمنت على قرار الثورة والمعارضة السورية وتحولت إلى مطية لأهداف ومصالح القوى الاقليمية والدولية، وحيث شكلت هذه الفصائل قطب ثورة مضادة لأهداف الثورة السورية. ثالثا: إن سير تطور الأحداث يتدحرج بدعم دولي واقليمي باتجاه يلتقي ويتفق ما يمكن بتسميتهم قطبي الثورة المضادة لثورة السوريين، أعني بذلك التقاء النظام الطائفي الذي يمثل القطب الأول والقديم في الثورة المضادة مع هذه الفصائل الإسلامية، التي مثلت القطب الثاني والجديد من الثورة المضادة. فهذا الالتقاء سيقود إذا ما تم إلى الانتقال من حالة الدولة القائمة على عقد إذعان طائفي مستور برداء الدولة القومية إلى حالة دولة المحاصصة الطائفية المكشوفة، أو لنقل سيقود إلى إخراج عقد الاذعان الطائفي، إلى العلن تحت مسمى محاصصة طائفية وتقاسم سلطة، وهو الأمر الذي إذا ما تم فإنه سيكون أسوأ في شروط تحققه من عقد المحاصصة الطائفية، الذي عرفه من قبل المجتمع اللبناني ثم العراقي بعد 2003 كما أن هكذا محاصصة في الشروط الدولية والاقليمية سيقود ألى تكريس حالة الانقسام العمودي للمجتمع السوري والذي يعني انقطاع الحامل التاريخي لوجود المجتمع والهوية الوطنية السورية، وبما يعني العودة إلى حالة التشكل البدائي الأولي للمجتمع، ولا سيما أننا نعيش في شرط دولي واقليمي سيعمل ما استطاع على تكريس نوع كهذا من المحاصصة والانقسام العمودي، الكفيل بإغلاق كل صيرورات التطور نحو الأمام، مقابل فتح صيرورات من الجدل الهابط تقود إلى السقوط إلى قاع التاريخ، إن لم نقل الخروج إلى خارج أسوار التاريخ البشري. “. ثم انتهى إلى القول ” إن الوقوف عند هزيمة هذه الطائفة أو تلك لا يقود بالضرورة إلى هزيمة الدولة القائمة على العصبية الطائفية، إن شرط العبور إلى الدولة الديمقراطية الحديثة التعددية يكمن في هزيمة كل حلفاء الاستبداد والحلفاء الطبقيين قبل غيرهم من الحلفاء الطائفيين، فهزيمة المارونية السياسية الطائفية في لبنان مع بقاء البرجوازية السائدة الطائفية، لم يقود إلى الغاء وتخليص المجتمع اللبناني من الطائفية بل قاد إلى انتقال السيطرة من طائفة إلى أخرى من المارونية السياسية، إلى ما يمكن تسميته بالشيعية السياسية، أي لم يقود إلا إلى إعادة دولة المحاصصة الطائفية بثوب جديد يتوافق مع توازنات طائفية سياسية جديدة داخل المجتمع، أي إن هزيمة عصبية طائفية حاكمة واستبدالها بعصبية طائفية حاكمة أخرى لا يشكل شرطًا للعبور إلى الدولة الديمقراطية التعددية الحديثة، والمثال اللبناني ثم العراقي خير دليل على ذلك، فهزيمة العصبية السنية الحاكمة في زمن النظام الاستبدادي الطائفي البعثي الصدامي، لم يقود إلى بناء الدولة الديمقراطية الحديثة في العراق بل قاد إلى قيام دولة المحاصصة الطائفية البغيضة، وإلى حكم العصبية الشيعية الطائفية”.
أما المحامي السوري أمير إبراهيم تريسي فهو يرى ” أن ما حدث في سورية و ما يحدث سيؤثر على التركيبة الديموغرافية بل على البيئة والعلاقات الاجتماعية بشكل عام، لكن هذا التأثير على الرغم من حدته وعمقه، سيبقى محدودًا ولن يستمر حتى يصل إلى حالة الانفصال المجتمعي النهائي، والقطعي الذي لا رجعة بعده، حتى ولو أفرز الواقع القائم حالات انفصام مجتمعي، واثني نتيجة السياسات المتبعة سواء من قبل النظام، أو من قبل الدوائر التي يقوم ويعمل على تنفيذ مخططاتها الانفصام المجتمعي، لا بد واقع وأثره في المدى القريب والمتوسط سيكون حادًا وعميقًا . لكنه وفي المدى البعيد والنهائي سيزول وينتهي. وسيعود الشعب السوري إلى ذات الحالة الاجتماعية (وربما بشكل أرقى) التي كان عليها في عصر الاستقلال الأول ولهذا الرأي دلالات تاريخية كثيرة. وخاصة منها استمرارية هذه اللحمة وعدم تفككها على الرغم من كل الأحداث التي عصفت في المنطقة، عبر الأزمنة المختلفة، والتي كان آخرها
ما خطط له وما فعله ونفذه الاستعمار الفرنسي في سورية، والذي جاء النظام ليكرسه ويجذره من خلال عملية إفساد وفساد ممنهجة مورست على كل المستويات، وبكل الوسائل المتاحة وفي كافة المجالات. بدءً من تخريب البيئة ودثر الأوابد التاريخية. وانتهاء بالتشريعات والقضاء،
وعلى الرغم من كل ما ذكرنا، وما لم نذكر على كثرته، فإنه مازال يوجد في سورية رجال من كل المكونات المجتمعية والطائفية تغلب العقل على الفعل الرديء، وترى في وحدة المجتمع السوري خلاصة مما هو عليه وما هو فيه. تساعدها في ذلك التداخلات المتنوعة والمعقدة في العلاقات المجتمعية السورية قديمها وحاضرها”. وتابع تريسي يقول ” فضلًا عما تفرزه البيئة الجغرافية للأرض السورية من أمر واقع يجعل الانفصام والانفصال المجتمعي أمرًا من العسير جدًا استمراره، إلى حد القطيعة التي لا رجعة بعدها”.
أما الاختصاصي الاجتماعي عبد الرحمن دقو فقد قال: ” أرى أنه بفعل الصراع العسكري والامني والسياسي في سورية هناك تأثيرات طالت المجتمع من جوانب مختلفة، منها ما أدى إلى تشظي البنية الاجتماعية أو إلى صلابتها، لقد أظهرت الكثير من البيئات الاجتماعية السورية صلابة نفسية منقطعة النظير في تلاحمها ومواجهتها لأقسى الظروف المادية والاجتماعية والجغرافية والامنية والانسانية ولم تستطع تلك الحرب الا ان تزيدهم اصرارًا وقوة ومتانة وبالتالي فهي تعبر عن صورة صحية حقيقية للمجتمع السوري فترى الزواج والعمل ومتابعة الدراسة والبحث عن أفضل الفرص والتنقل في دول العالم وصولا لما يحقق الطموح والأمل بعد ان نالت الحرب من نفسيات الكثيرين ممن أصابتهم حالات الاكتئاب والاضطرابات النفسية والسلوكية ولم يكونوا قادرين على مواجهة الصدمات النفسية بمختلف اشكالها ” وأضاف ” ان نظرة لواقع حال اللاجئين السوريين في مخيماتهم في لبنان على سبيل المثال تجد واقعاً فيه العوز في كل شيء والحرمان من أبسط مقومات الحياة ولا يزالوا يتابعون الاخبار وآمالهم في العودة الى سورية قوية وكبيرة وسعيهم لتدبر احوالهم مستمر ووطنيتهم تتأجج في قلوبهم ومشاعرهم، وما ان تذكر حيا او قرية او بقعة جغرافية ما، او شخصا او عائلة ما، الا وتجيش العواطف والذكريات حرقة وشوقا لها، إذًا مسألة التفكك والتشتت الاجتماعي هي مسألة نسبية وليست عامة ويمكن لي القول اننا بحاجة لإعادة صياغة عقد اجتماعي يربط فئات المجتمع السوري ببعضها وأعتقد أن ذلك ينجح على اعتبار أن هذا الشعب لا يزال يملك من المقومات التي تجمعه الكثير الكثير، بدلا من اضمحلالها او زوالها بفعل حالة القنوط والخذلان التي يعيشها السوريون، غير انها لن تصل هذه الحالة الأخيرة لدرجة اعتبار الشعب السوري مفككاً منهاراً ومتداعياً ومحشواً بالأمراض “. وانتهى إلى القول: ” بتقديري لا ليس ذلك صحيحًا وانما اكتسب شعبنا القدرة على التكيف مع ظروف واحوال قل من يتكيف معها على وجه الأرض “.
المصدر: جيرون
I like this web site it’s a master piece! Glad I detected this ohttps://69v.topn google.Raise blog range