قاسم البصري
ينشر راديو نينار السوري المحلي على قناته في يوتيوب، بين فترةٍ وأخرى، مقاطع مصوّرة من أسواق العاصمة دمشق، يرافق فيها موظفين من وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك (التموين سابقاً)، أثناء قيامهم بحملات تفتيشية هدفها «التأكد من توافر المواد الغذائية في الأسواق، والتدقيق في أسعارها، وفي تداول الفواتير بين حلقات البيع والشراء ومدى مطابقتها للمواصفات، فضلاً عن سحب عينات مشكوك في سلامتها من الناحية الصحية أو السعرية، وممارسة الرقابة على المستودعات والمسالخ وجميع نقاط البيع في الأسواق»، وذلك بحسب ما يصرح به بسام شاكر، معاون مدير تموين ريف دمشق، خلال الجولة التي يقوم بها في أسواق مدينة جرمانا بريف دمشق صحبة كاميرا نينار.
الملاحظة الأولى التي يمكن تسجيلها هي أن هذه الجولات تتّسم بغياب أيّ احترام لخصوصية الباعة والتجار الذين يتم اقتحام محلّاتهم، فهي لا تقيم وزناً لما قد يلحق بهم من تشهير وأذى نفسي جرّاء عرضهم أمام شريحة واسعة من المشاهدين بمظهر الفاسدين أو المحتالين المتلاعبين بالأسعار والمواصفات، ذلك أن الكاميرا تقتحم المحال التجارية والمطاعم برفقة «دوريات» التموين، وتباشر التصوير دون طلب الإذن من أصحابها.
ورغم أنّ الفيديوهات تخضع لعمليات المونتاج، إلا أنّ القائمين على إنتاجها لا يلجؤون لتعمية الوجوه أو طمس معالم مكان التصوير، وكأنّ الهدف المباشر منها هو «الفضح» والتشهير بباعة تجزئة يعملون برؤوس أموال متواضعة، وتحميلهم كامل المسؤولية عن المشاكل المعيشية للسوريين الموجودين في مناطق سيطرة النظام، ليبدو واضحاً أن الرسالة التي يريد نينار إيصالها لمتابعيه، هي أنّ مؤسسات الدولة تفعل كل ما بوسعها، فهي توفّر البضائع في الأسواق، وتسيّرُ لجاناً ودوريات لمراقبة وصولها إلى المستهلكين على النحو الأمثل، لكن المواطنين هم من يأكلون بعضهم بعضاً بالغشّ، ويعودون على أنفسهم بالمشكلات.
وليس واضحاً سبب اختيار وسيلة إعلامية خاصة، تعرض محتواها على موقع يوتيوب، لتغطية جولات حكومية كهذه، بدلاً من الذهاب برفقة الإعلام الرسمي، لكن التحقيق الذي نشرته جريدة العربي الجديد ربما يتضمن جانباً من الإجابة، فهو يبيّنُ أنّ «نينار إف إم» هي جزء من امبراطورية آل مخلوف المالية، وبالتالي فهي جزءٌ ممّا بات يُعرف في سوريا بالإعلام شبه الرسمي، نتيجة التصاقه الشديد بالنظام الحاكم وتوجهاته. ولعل تبعية الإذاعة لعائلة مخلوف، ذات النفوذ المخيف في سوريا، تُفسرُّ وضع «مؤسسات الدولة» تحت تصرّفها، بحيث يبدو أن بمقدورها اقتياد موظفي هذه المؤسسات إلى حيث تشاء. كما أن هذا يصلح تفسيراً لجرأة مذيع المحطة وقيامه باستجواب الباعة بنفسه، كما لو أنه واحدٌ من مسؤولي مديريات التموين، وكذلك قيامه بتنبيه أعضاء اللجان التموينية إلى ما يغفلون عنه أثناء عملية التفتيش.
وليست المشكلة في الجولات التي تقوم بها اللجان التموينية، فالمفترض أنّ ذلك من الوظائف الموكلة لوزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، لكن المشكلة تكمن في أنّ هذه الجولات لا تقترب من الفعاليات الاقتصادية الضخمة أو المعامل الكبيرة التي يمتلكها متنفّذون في البلاد أو رجال أعمال مُقربون من عائلة الأسد، لا سيّما آل مخلوف الذين يملكون نينار نفسه، بل تختصّ بمحال صغيرة يظهر البؤس على وجوه أصحابها، الذين نراهم في الفيديوهات خائفين ومرتبكين، يجيبون على الأسئلة بتلعثم واضح كأنهم أمام مجموعة من المحققين الجنائيين.
في الجولة المصوّرة في واحدٍ من أسواق جرمانا بريف دمشق، لا يجد معاون مدير تموين دمشق حرجاً في استجواب أطفال يعملون كأُجراء في محل بقالة، رغم أنّ أكبرهم لا يتعدّى سنّ الثالثة عشرة، ومن دون انتظار حضور صاحب المحل. ومرة أخرى لا يتم تمويه وجوه الأطفال المتلعثمين الخائفين، في اعتداء إضافي على خصوصيتهم.
في المحلّ نفسه، يقوم بسام شاكر بضبط ما اعتبره مواداً مجهولة المصدر مُهرّبة إلى البلاد، ويأمر بمصادرتها لتُحال إلى التفتيش. ورغم أنّ جميع السوريين يدركون أنّ دخول هذه المواد إلى البلاد لا يجري إلا عن طريق شبكات مهربين مرتبطين بالنظام، بحيث يستطيعون تسهيل عبور عشرات الحواجز، إلا أنّ الباعة الصغار هم من تتم محاسبتهم على هذه البضائع التي يُهرّبها فاسدون كبار.
في جولة تفتيشٍ أخرى استهدفت سوق الدقاقين (البزورية) في دمشق، يقوم بها فريق يضمّ معاون وزير التجارة الداخلية ومدير مديرية حماية المستهلك ومدير تموين دمشق، تقرّر اللجنة أنّ سعر أحد المنتجات لا يخالف النشرات التموينية دون أن يكون بصحبتهم أي قوائم سعرية، إنّما فقط لأن أحدهم «يحفظ سعره». ولكن هذه الجولة لا تنقضي قبل إغلاق عدد من المحال بالشمع الأحمر، وتغريم محال أخرى أو إحالة أصحابها للقضاء، لا سيّما حين يجري في أحد المحال ضبط ثلاثة أكياس من المواد الإغاثية التي يدّعي البائع أنّ أحدهم تركها لديه على سبيل الأمانة.
وفي جولة ثالثة تستهدف مطاعم الشاورما ومحال الفروج واللحوم في منطقة الشيخ سعد بدمشق، يصحب فيها الراديو رئيس شعبة الضابطة التموينية في دمشق، ويواصل المذيع ممارسة الدور الذي لا يختصّ به، حين يبادر بنفسه لسؤال الزبائن عن التسعيرة التي يشترون بها من أحد المطاعم، ليتسبّب لأحدهم بالإحراج حين يجيب بأنّه دفع 500 ليرة، في حين أنّ التسعيرة النظامية هي 450 ليرة، فلا يجد الزبون بدّاً من الهرب دون أن يأخذ السندويشة التي طلبها؛ حتى لا يتسبّب لنفسه ولصاحب المطعم بالمشاكل.
وفي واحدة من الجولات، تتم مخالفة أحد أصحاب محلّات بيع اللحوم، لأنه قام مسبقاً بفرم كمية تزيد على 2 كيلوغرام، في تجاوز لما هو منصوصٌ عليه في التعليمات التموينية. وقد تم فرض المخالفة رغم أنّ صاحب الملحمة حاول أن يشرح لهم، دون جدوى، أنّ الكهرباء مقطوعة معظم الأوقات، ولا تسمح البلدية له بوضع مولّدة خاصّة أمامها.
يمكن النظر إلى هذه المقاطع المصوّرة بوصفها تكثيفاً للسلطوية الأسدية_المخلوفية، تتمظهر من خلالها سياسات النهب التي تسطو على مقدّرات بلدٍ كامل، وتنهب أرزاق ساكنيه لخدمة جشعها وتوقها لمراكمة الأموال، ثمّ تلاحق باعة صغار لتحمّلهم مسؤولية الفساد والكوارث الاقتصادية والمعيشية التي وصلت إليها سوريا. وفوق أن الأمر يبدو برمته تمثيلية سمجة يعرف الجميع حقيقتها، فإنّ الخوف والارتباك البادي في وجوه هؤلاء الباعة وأصواتهم المرتجفة، يعكس جانباً من سياسات الترهيب التي تمارسها الأسدية على السوريين، والتي تجعلهم يخافون من موظّف مدني في دائرة التموين، ومن مذيع مغمور يعمل في إذاعة مغمورة.
المصدر: الجمهورية نت