سامر إلياس
من المنتظر أن يشكل المؤتمر الذي يعقد في القدس المحتلة اليوم الإثنين بين مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون وأمين مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف، ومستشار الأمن القومي الإسرائيلي أيضاً مئير بن شبات، محطة فارقة في تاريخ الأزمة السورية. وتأمل موسكو في تحقيق اختراقات تنهي الاستعصاء الميداني والسياسي الحاصل، وتسعى إلى دعم مبادرتها القاضية بعودة اللاجئين وإعادة الإعمار. وواضح أن اجتماع القدس المحتلة بين باتروشيف وبولتون يسعى إلى رسم خرائط نفوذ جديدة، تبحث في مستقبل الوجود الأميركي شرقي الفرات وفي قاعدة التنف الاستراتيجية جنوبي شرقي سورية قرب المثلث الحدودي مع الأردن والعراق.
وبعد نحو أربع سنوات على تدخلها العسكري المباشر لدعم نظام بشار الأسد، باتت روسيا، التي استطاعت قلب التوازنات على الأرض في شكل واضح، غير قادرة على دعم النظام لتحقيق أي تقدم ميداني جديد في شرقي سورية وشمالها أو إدلب. والمنطقة الأولى محكومة بتفاهمات مع الجانب الأميركي الداعم لـ”قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، التي تشكل “وحدات حماية الشعب” الكردية عمودها الفقري، وتشكل نحو ثلث مساحة سورية، وتنتج أكثر من 90 في المئة من النفط ونصف الغاز الطبيعي وفيها أكبر محطة لإنتاج الكهرباء في سورية على نهر الفرات، بالإضافة إلى أنها مصدر المحاصيل الزراعية الاستراتيجية، مثل الحبوب والقطن. وأظهر مقتل المئات من المرتزقة الروس وقوات النظام والمليشيات الإيرانية، في فبراير/شباط 2018، جدية واشنطن وحلفائها برسم حدود بالنار والدم لمنع تقدم النظام وعبور نهر الفرات باتجاه الشرق.
وفي ظل التصعيد الحاصل بين إيران والولايات المتحدة، ومواقف إسرائيل الداعمة لتوجيه ضربة ضد طهران، وقصفها المتواصل للأهداف الإيرانية والمليشيات التابعة لها في سورية، يشي اختيار القدس المحتلة للاجتماع، بحضور رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي مئير بن شبات، أن موسكو وجدت أن بوابة إسرائيل هي أفضل طريق للوصول إلى تفاهمات مع أميركا ضمن صفقة تتضمن الوجود الإيراني، ومستقبل شرقي الفرات، وقد تتجاوز الشأن السوري، في ظل اتضاح بعض بنود خطة الإملاءات الأميركية لتصفية القضية الفلسطينية، المعروفة إعلامياً بـ”صفقة القرن”. ورغم نفي الكرملين الحديث عن أي “صفقة كبرى”، وتشديد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أن موسكو لا تتاجر بحلفائها ومبادئها، فإن روسيا تستعجل التوصل إلى حل مع الولايات المتحدة يستكمل اتفاقات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ووزير الخارجية الأميركي السابق جون كيري في 2013، والتي أطلقت عملياً يد روسيا في سورية وفوضتها إدارة الأزمة على هواها، وأنتجت مفاوضات جنيف 2 التي جمعت المعارضة والنظام معاً مطلع العام 2014 في جولات ماراثونية لم تسفر عن أي تقدم حقيقي في الملفات الرئيسة.
وبعد الخدمات الكبيرة التي قدمتها روسيا لإسرائيل ورئيس حكومتها بنيامين نتنياهو، عبر إعادة ترتيب الأوضاع في جنوب سورية، وتهيئة الظروف من أجل عودة قوات الفصل الأممية “أندوف”، وقبولها بإبعاد إيران ومليشياتها مسافة 100 كيلومتر عن خط الفصل في الجولان المحتل، وبالتالي عودة الهدوء الكامل إلى الجبهة السورية كما كان الحال ما بين 1974 و2011 حين انطلقت الثورة ضد حكم بشار الأسد، تأمل موسكو في أن تساعد مجموعات الضغط التابعة لإسرائيل في الولايات المتحدة في تخفيف العقوبات الغربية التي أثرت كثيراً في مستوى حياة الروس، وتسببت في تراجع شعبية بوتين إلى نحو 60 في المائة، بعدما كانت عند 95 في المائة حين ضم شبه جزيرة القرم في 2014.
لكن الرغبة الروسية في صوغ تفاهمات جديدة على شاكلة تفاهمات لافروف – كيري عقب مجزرة الكيميائي في دوما، والتي سمحت باستئثار روسيا بتفاصيل الحل السوري بعد تفكيك وسحب ترسانة الأسلحة الكيميائية السورية، تصطدم بحليفيها تركيا وإيران ضمن مسار أستانة، الذي مكّن موسكو في سورية وسمح ببسط سيطرة النظام على أكثر من 60 في المائة من مساحة البلاد، بعد إخراج المعارضة من مناطق خفض التصعيد في الغوطة والجنوب وشمالي حمص بحجة محاربة “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً). فتركيا التي تشارك سورية حدوداً تتجاوز 900 كيلومتر، تنطلق من أن مصير المناطق الحدودية، من إدلب إلى منبج وشرق الفرات، مسألة أمن قومي من الدرجة الأولى، فهي تعمل من أجل منع قيام أي كيان كردي على حدودها الجنوبية وتصنف “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) مجموعات إرهابية، ولا تستطيع التخلي عن المجموعات السورية المعارضة في إدلب أو عمليتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون” من دون ضمانات بخصوص منع تشكيل كيان كردي، ودمج المجموعات المقربة منها في الجيش والأجهزة الأمنية بعد الحل السياسي في سورية. وفي المقابل، تتمسك إيران بتعزيز وجودها ونشر قوات الحرس الثوري و”حزب الله” اللبناني والمليشيات العراقية والأفغانية وغيرها في سورية، لعدة أسباب أهمها أنها تنطلق من أن خروجها من سورية سيضعف مكانة “حزب الله” في لبنان ويؤدي إلى إغلاق طريق طهران ــ بيروت الاستراتيجي عبر بغداد ودمشق، ما يعني حرمان إيران من اللعب بورقة محاربة إسرائيل، مع مخاوف جدية بانكسار مشروعها خارج حدود إيران، ولاحقاً تشديد الحصار عليها ومحاربتها في الداخل بعد التخلص من أجندتها الخارجية. كما أن إخراج إيران من سورية يعني خسارة استثمارات اقتصادية وسياسية واجتماعية ضخمة، راكمتها إيران منذ حكم الأسد الأب في ثمانينيات القرن الماضي، وزادت وتيرتها بعد الثورة على الأسد الابن.
ومن المؤكد أن موسكو استطاعت اللعب بمهارة في الملف السوري ضمن توازنات إقليمية ودولية صعبة ودقيقة طوال السنوات الماضية، واستفادت من جميع الظروف السياسية في المنطقة وباتت اللاعب الأهم في سورية، لكنها الآن أمام خيارات صعبة، مع عدم إمكانية الجمع بين مصالح اللاعبين المؤثرين والمعنيين بتداعيات الأزمة السورية التي تصل إلى حد التناقض. وتحتاج روسيا لتثبيت إنجازاتها على الأرض إلى حل سياسي يضمن، على المدى البعيد، مصالحها الاقتصادية في سورية، وبقاء قواعدها في المياه الدافئة شرقي المتوسط، وعلى المدى القصير، فإن روسيا في أمس الحاجة إلى حل يجنبها الانزلاق في مستنقع أفغاني جديد، والبدء بتطبيع الحياة في سورية عبر إعادة اللاجئين وإطلاق مشاريع إعادة الإعمار لتحقيق الاستقرار المطلوب للدفع بمشروعها. وبداهة فإن تحقيق هذه الأهداف يحتاج دعماً إضافياً من الاتحاد الأوروبي الذي يخشى من موجات لجوء جديدة في حال استمرار الحرب في سورية إذا لم يتجاوب مع المبادرة الروسية، وهو لا يزال يربط بين العودة الطوعية للاجئين السوريين ودعم مشاريع إعادة الإعمار بالتوصل إلى حل سياسي، رغم الضغط المتزايد من أحزاب اليمين المتطرف المقربة من روسيا. وعلى الرغم من أن موسكو استفادت من الأزمة الخليجية، وتراجع اهتمام البلدان المنخرطة في هذه الأزمة بالملف السوري، فإن ضخ أموال الخليج لإعادة الإعمار لن يتم قبل إنهاء الوجود الإيراني في سورية.
وتساعد رعاية إسرائيل، عبر اجتماع باتروشيف وبولتون، في إزالة بعض العقبات، خصوصاً أن الجانبين الأميركي والروسي يعلنان أنهما معنيان بالمحافظة على أمن إسرائيل، ويعملان على ذلك، عبر إقرار الأول بسيادتها على الجولان السوري المحتل، وتزويدها بأحدث الأسلحة، وسماح الثاني لها العمل بحرية في الأجواء السورية وإبعاد أي خطر عن حدودها الشمالية. وربما يخرج الاجتماع بتفاهمات وصفقات تعرض على الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترامب لإقرارها في اجتماع قصير مقرر على هامش قمة العشرين في أوساكا اليابانية نهاية الشهر الحالي. لكن الاجتماع، الفارق بالتأكيد في تاريخ الأزمة السورية، لن يكون الأخير، ويحتاج إلى عمل صعب وشاق مع الأطراف المؤثرة في سورية التي تحولت منذ زمن بعيد إلى ساحة حروب بالوكالة، وصندوق بريد لأطراف تسعى إلى تحقيق أكبر المكاسب على حساب دم السوريين ومستقبل عيشهم المشترك.
المصدر: العربي الجديد