بكر صدقي
لم يتسرب شيء ذو قيمة من اجتماع القدس الثلاثي، الذي ضم مستشاري الأمن القومي لكل من الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل. ما تم تداوله هو عبارة عن تخمينات قائمة على الأجندات المعلنة للدول الثلاث، بشأن سوريا بصورة خاصة، وإن كان الأمر يتجاوزها إلى مجمل الشؤون الإقليمية، كالتوتر الأمريكي ـ الإيراني وما يسمى بـ«صفقة القرن» الخاصة بالصراع العربي ـ الإسرائيلي وغيرها. غير أن «تحديد ملامح مستقبل سوريا»، حسب نتنياهو، ربما كان موضوع التداول الرئيسي بين المجتمعين. ومن الخطأ التسرع باستنتاج أن الاجتماع لم يحقق أي تفاهمات بين أطرافه. ينبغي انتظار الأيام والأشهر المقبلة لمعرفة ما قد يكون الاجتماع حققه.
هذا الاجتماع غير المسبوق بما يشبهه، قد يكون بمثابة «منصة» ثالثة، بعد جنيف وأستانة ـ سوتشي، للتفكير في مصير «سوريا الأسد» وسوريا بالمطلق على حد سواء. وفضلاً عن إيران المستهدفة أمريكياً، يُخرج اجتماع القدس الثلاثي تركيا من المعادلة، في وقت تضغط فيه السعودية لضم وفد كردي إلى «هيئة المفاوضات» المقيمة في الرياض، في حين تسعى واشنطن إلى إعلان موت مسار أستانة. وتبقى روسيا، بوصفها الوصية على «سوريا الأسد»، عنصراً مشتركاً بين مسار أستانة الماضي نحو نهايته واجتماع القدس المرشح، ليكون المسار البديل الذي يقرر مصير سوريا وفقاً لمبدأ «أمن إسرائيل أولاً».
وحده هذا المبدأ هو ما قد يفسر موافقة كل من واشنطن وموسكو على عقد هذا الاجتماع، وفي القدس بالذات، بما يمنح إسرائيل دوراً مفتاحياً في تحديد ما يجب أن يكون، وما لا يجب، في سوريا، بعد انتهاء الصراع فيها وعليها ومن حولها. كما تعني هذه الموافقة أن كلاً من روسيا والولايات المتحدة متفقتان على أولوية أمن إسرائيل في أي تسوية للصراع السوري، بصرف النظر عن خلافاتهما في جميع الأمور الأخرى. يمكننا أن نفترض، من غير أن نكون مغرقين في الخيال، أن عبارة أمن إسرائيل الفضفاضة يمكن أن تشمل اشتراطات من نوع حجم الجيش المسموح بإنشائه في سوريا، ونوع وحجم تسليحه، وربما شفافيته وقابليته للمراقبة والمساءلة، وخريطة انتشاره على الأراضي السورية، بما في ذلك الحد الأقصى من الاقتراب المسموح به من حدود إسرائيل، وغير ذلك مما «قد يهدد أمن إسرائيل»!
غير أنه لا يمكن للمجتمعين في القدس التفكير بمصير سوريا، بعيداً عن التفكير في مصير إيران في سوريا، وبخاصة في جو التوتر القائم في الخليج بعد إسقاط الإيرانيين للطائرة الأمريكية المسيرة، وفي ظل الهدف الأمريكي ـ الإسرائيلي المعلن بخصوص إخراج القوات الإيرانية والميليشيات التابعة لها من سوريا. ومن المحتمل أن يكون التباحث شمل أيضاً إخراج القوات التركية من الشمال، وإن كان هذا أقل إلحاحاً من الهدف الأول. فعلاقات القيادة التركية ليست بخير مع كل من واشنطن وموسكو وتل أبيب، بل إن انعقاد اجتماع القدس، بحد ذاته، هو تهميش مباشر للدور التركي في سوريا ومصيرها.
ربما هذا ما يفسر مسارعة الرئيس أردوغان إلى البدء باتصالاته لتأمين عقد اجتماع جديد لثلاثي أستانة (روسيا وإيران وتركيا)، في إسطنبول بالذات، ولاجتماع «رباعي إسطنبول» المكون من تركيا وروسيا وفرنسا وألمانيا، الذي عقد أول اجتماع له خريف العام الماضي، في أقرب وقت. ذلك أن مجرد عقد أحد أو كلا الاجتماعين، في إسطنبول، من شأنه أن يشكل رداً دبلوماسياً على اجتماع القدس، وبخاصة أن كلتا «مجموعتي العمل» خاليتان من الدور الأمريكي المربك لتركيا. فالخلاف المستعصي بين واشنطن وأنقرة في سوريا، هو العلاقة التحالفية بين الأمريكيين وقوات «قسد» بمكونها الكردي الذي يلامس العصب التركي عارياً.
والحال أن اجتماع القدس مهم لأنه يضم الأمريكيين، مقابل تراجع أهمية مسار أستانة بسبب غيابهم الذي يعطل أي تقدم عليه. أما «رباعي إسطنبول» المطعم بالأوروبيين، فهو أصلاً غير مرشح ليضيف أي وزن إلى المطالب التركية في سوريا، ويفرغه الحضور الروسي من أي مضمون خاص، بل يجعله مجرد منتدى للتباحث حول مشكلات اللاجئين وإعادة الإعمار، بعيداً عن أي دور سياسي للأوروبيين في تحديد مصير سوريا.
بالمقابل، تضغط إدارة الرئيس ترامب على الدول الأوروبية، فرنسا وبريطانيا وألمانيا بصورة خاصة، للمساهمة عسكرياً ومالياً في تثبيت الوضع القائم شرق نهر الفرات، فيما يتعارض والطموحات التركية بشأن تلك المنطقة المحاذية لحدودها الجنوبية.
في نظرة إجمالية للحراك الدبلوماسي النشط في الإقليم، من اجتماع المنامة إلى اجتماع القدس إلى اللقاءات على هامش قمة العشرين في أوساكا، يمكن القول إن مصير الإقليم، وضمناً مصير سوريا، يرسم ببطء وعلى نار هادئة، بعكس النار الكاوية التي تحرق السوريين. وليس ثمة في الأفق ما قد ينبئ بفصل الصراع السوري عن الصراعات الإقليمية، بما قد يسرّع من إيجاد تسوية ما للصراع السوري.
المصدر: القدس العربي