رائد جبر
تركزت الأنظار أخيراً، على اتساع هوة التباين بين إيران وروسيا في سوريا، واتخاذ التنافس بين الطرفين أشكالاً جديدة لم تشهدها العلاقات منذ بدء الأزمة السورية، مثل الانزلاق نحو مواجهات مسلحة بين مجموعات مدعومة من الطرفين، كما حصل أخيراً في شرق البلاد، أو اتخاذ التنافس التجاري الاقتصادي أبعاداً أكثر حدة.
ومع أن تطابق المصالح خلال المرحلة السابقة لتقويض نفوذ المعارضة التي سيطرت بين عامي 2012 و2015 على الجزء الأكبر من مساحة البلاد، لعب دوراً أساسياً في تغييب القضايا الخلافية، كانت تحليلات خبراء روس منذ البداية تتجه إلى أن لحظة الصدام ستكون حتمية في مرحلة لاحقة؛ بسبب تناقض الرؤية النهائية للتسوية في سوريا من ناحية، ومن ناحية ثانية تنامي الطموحات لدى كل طرف بتوسيع منطقة نفوذه تجارياً واقتصادياً وعسكرياً في المرحلة المقبلة، فضلاً عن توفر قناعة بأن موسكو ستكون مضطرة في مرحلة معينة إلى التعامل مع مطالب أطراف إقليمية ودولية ترى في الوجود الإيراني في سوريا وسياسات طهران في المنطقة عموماً تهديداً مباشراً لأمنها.
خلال الفترة الأخيرة، تحدثت تقارير إعلامية عن زيادة معدل التوتر بين قوات البلدين في منطقة شرق سوريا التي وصلت إلى حد الاستنفار العسكري والاقتراب من الانزلاق نحو وقوع اشتباكات بينهما، ووفقاً لمصادر، فإن سبب التوتر الأخير قيام القوات الروسية بمنع فصائل حليفة لإيران من التمركز في عدد من المناطق بما في ذلك نقطة حدودية مع العراق.
ونقلت المصادر أن الجهات المقربة من إيران أكدت هذه المعطيات، لكن هذا ليس التوتر الأول من نوعه، إذ ذكرت تقارير أنه خلال الشهور الأخيرة، برز بقوة الجهد الروسي لإضعاف نفوذ الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد شقيق رئيس النظام السوري، وهو مرتبط بطهران مباشرة واسمه مدرج على لوائح العقوبات الدولية. في المقابل، عملت موسكو على دعم نشاط المجموعات التابعة لها، وعلى رأسها القوات التي يقودها سهيل الحسن الملقب بـ«النمر»، وهو مقرب من موسكو واستقبله بوتين مع رجاله عندما زار قاعدة حميميم. وكانت اشتباكات وقعت بين الطرفين تمت محاصرتها سريعاً في مناطق عدة أخيراً أبرزها في محيط دير الزور. كما عملت موسكو على الضغط على الأسد لإعفاء عدد من الشخصيات المقربة من ماهر الأسد من مناصب عسكرية وأمنية.
ومع التزاحم الذي يبرز على مستوى التعيينات داخل الجيش والقوى الأمنية، وفي التسابق على قطع الطرقات أمام الطرف المقابل لتثبيت النفوذ داخل مؤسسات الدولة بشكل خاص، برزت زيارة الأسد إلى طهران من دون التنسيق مع موسكو لتزيد من الهوة، وكتبت الصحافة الروسية في حينها أن طهران تحاول إظهار الصورة بأن «الأسد يفضل الارتماء في الحضن الإيراني».
ومع التنافس على الوجود الأمني والعسكري برزت مشكلة الوجود الإيراني الخفي من خلال فصائل سورية دربتها طهران، ويقدر خبراء تعداد هذه القوات بأكثر من 15 ألفاً وجرى تدريبها لتندمج لاحقاً في القوات المسلحة السورية، وهو أمر ترى فيه موسكو تهديداً لخططها على المدى البعيد، ويعكس في المقلب الآخر صعوبة قيام موسكو بإنهاء الوجود الإيراني في سوريا تماماً، حتى لو أرادت ذلك، وهذا يفسر تصريحات بعض المسؤولين الروس بأنه «حتى لو عملنا على خروج الإيرانيين فسوف يخرجون لاستبدال بدلاتهم العسكرية ويعودون بملابس مدنية». التطورات الأخيرة، جاءت بعد مرور أيام على اجتماع مستشاري الأمن القومي الإسرائيلي والروسي والأميركي في إسرائيل، وترافقت مع التوتر الإيراني – الأميركي المتزايد في منطقة الخليج. وكان الهدف الأول للاجتماع الأمني بحث مسألة الوجود الإيراني في سوريا.
وتمسكت موسكو بموقفها المعلن حول «شرعية» الوجود الإيراني في سوريا، وهذا برز من خلال تصريحات سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي نيكولاي باتروشيف الذي دافع بقوة عن طهران في لقاء القدس الغربية، مؤكداً أن روسيا ترفض «شيطنة إيران»، رافضاً الهجمات الإسرائيلية في سوريا بالقول إنها «غير مرحب بها».
وتتعمد طهران إظهار أن الخلافات مع روسيا سببها العلاقة الروسية – الإسرائيلية. وكانت موسكو نجحت خلال الفترة الماضية في المحافظة على توازن دقيق أقامته في سوريا بين مصالحها مع الطرفين الإيراني والإسرائيلي، لكن تفاقم التوتر حول إيران أخيراً، وضع هذا التوازن أمام اختبار لقدرة موسكو على اتخاذ قرارات صعبة، علماً أن أطرافاً في إيران تحمل بقوة على الروس.
وقال حسين جابري أنصاري، النائب السابق لوزير الخارجية الإيراني قبل شهور، إن الخلاف في وجهات النظر بين طهران وموسكو فيما يخص إسرائيل كبير، رغم أنه شدد في الوقت ذاته على وجود مصالح مشتركة مع روسيا في سوريا.
من جانب آخر، وجهت روسيا خلال الفترة الأخيرة إشارات عدة إلى استعدادها للتعامل مع ملف تقليص النفوذ الإيراني في سوريا، لكن محللين رأوا أن هذا الملف يجب أن يناقش في إطار التسوية الشاملة في البلاد. بمعنى أن التشدد الروسي يهدف وفقاً لخبراء إلى رفع السقف التفاوضي لروسيا في المرحلة المقبلة. وكانت موسكو أعلنت ضرورة «انسحاب كل القوات الأجنبية بما فيها الإيرانية» في وقت سابق، كما لعبت دوراً حاسماً في إبعاد القوات الإيرانية والقوات الحليفة لها من مناطق الجنوب السوري إلى مسافة 80 كيلومتراً عن الحدود. وأكثر من ذلك، فقد قال نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريباكوف أخيراً، إن بلاده «لا تقلل بأي طريقة من أهمية التدابير التي من شأنها ضمان أمن قوي لإسرائيل»، التي وصفها بأنها «أهم أولويات روسيا».
لكن تصاعد التباين مع روسيا لا يقتصر على العلاقة الروسية مع إسرائيل، وعلى التنافس لتوسيع مناطق النفوذ والسيطرة على المؤسسات الأمنية والعسكرية، إذ برز التنافس القوي أيضاً على الفوز بالعقود الكبرى المجزية والاستراتيجية. وفي العام الماضي، نجحت موسكو في إقناع الأسد بالتراجع عن عقد كبير تم توقيعه مع الإيرانيين لاستثمار الفوسفات السوري، وبعد فترة بسيطة، أعلن عن فوز شركة روسية بالعقد. وانسحب هذا الشكل من الصراع الخفي على قطاعات عدة في البلاد، لكنه برز بشكل خاص في الفترة الأخيرة في مشروع السكة الحديد الواصل بين إيران وسوريا عبر العراق والذي يمر في محافظة دير الزور، حيث حصل الاستنفار الأخير، كما برز لدى الإعلان عن تسلم إيران مرفأ اللاذقية الذي سيكون المحطة الأخيرة في مسار السكة الحديد.
وكان مدير شركة خطوط السكك الحديدية الإيرانية، سعيد رسولي، أكد خلال لقاء مع نظيريه السوري والعراقي، أن خط السكة الحديد سينطلق من ميناء الإمام الخميني في إيران مروراً بشلمجة على الحدود العراقية ومدينة البصرة العراقية ليصل إلى ميناء اللاذقية. لكن الحذر الروسي في التعامل مع الوجود الإيراني على البحر المتوسط بدا واضحاً في تعليقات الخبراء وتحليلات الصحافة الروسية التي توقفت عند حرص الكرملين على أن تكون روسيا صاحبة القوة الرئيسية على الساحل الشرقي للمتوسط، وهو ما يضمنه لها مرفأ طرطوس الذي استأجرته لمدة 49 عاماً.
ويشير معلقون إلى أن وجود إيران في اللاذقية يقلق روسيا على المستويين الأمني والعسكري، ويمكن أن يعرّض قواتها للخطر في حال حدوث أي توتر كبير بين إيران وإسرائيل أو بين إيران والولايات المتحدة الأميركية.
ورغم أن توقعات الخبراء الروس تشير إلى أن التنافس الإيراني – الروسي في سوريا سوف يحتدم أكثر كما يبدو كلما اقتربت الأوضاع من نقطة إطلاق عملية التسوية السياسية في سوريا، وأنه سوف ينعكس في تدابير وإجراءات في أكثر من منطقة على الصعيدين الميداني أو الاقتصادي، يؤكد الخبراء في الوقت ذاته، أن الطرفين لا يرغبان في نقل المواجهة المتفاقمة إلى العلن، وأنهما سوف يعملان على المحافظة على «الشراكة» الاضطرارية القائمة، بسبب الصعوبات التي يواجهها كل طرف، وتقاطع الملف السوري مع عدد من الملفات الإقليمية، وعدم وجود بدائل لدى أي طرف منهما على المدى المنظور.
المصدر: الشرق الاوسط