ياسر الحسيني
خرجت إسرائيل من حرب تشرين / اكتوبر 1973 وهي مطمئنة بأنّها آخر الحروب مع دول الطوق، ولم يعد أمامها سوى المقاومة الفلسطينية بفصائلها المتعددة والتي تجمّعت في لبنان بعد أن حُرمت من التواجد في الأردن على إثر أحداث أيلول 1970 التي عرفت باسم (أيلول الأسود).
أوعزت إسرائيل لعملائها في لبنان لإشعال الحرب الأهلية وتوريط الفلسطينيين فيها تمهيداً لإجتياح لبنان 1982 وحصار المقاومة الفلسطينية بمساعدة القوات السورية والميليشيات المسيحية وإجبارها على الخروج بشكل نهائي من لبنان، لتصبح حدود إسرائيل آمنة مع كل من مصر (اتفاقية كامب ديفيد) وسوريا (إتفاق هدنة طويل الأمد) ولبنان (جيش لبنان الجنوبي).
هذه الحال التي أصبحت عليه إسرائيل من الطمأنينة، شجعتها على التفكير بجلب المهاجرين اليهود بأعداد كبيرة من أجل تغيير الديمغرافيا السكانية داخل فلسطين المحتلة لصالحها، فتوجهت دعواتها لليهود الشرقيين (السفارديم) في دول الإتحاد السوفييتي وإيران و(أثيوبيا)، بعد أن تضاءلت فرصها في اقناع يهود الغرب (الأشكناز) بالهجرة نظراً للمستوى المعيشي الجيد الذي يتمتع به اليهود في الدول الغربية عموماً.
من هم يهود أثيوبيا ” الفلاشا “: هناك تمييز ليهود الحبشة عن سائر اليهود، إذ لا يتم تصنيفهم من السفارديم أو الأشكناز ولهذا تم تسميتهم بالفلاشا والتي تعني باللغة الأمهرية ” المنفيون ” أو ” الغرباء “، وكانت الحكومات الإسرائيلية في السابق ترفض هجرتهم بحجة أنّه لا ينطبق عليهم ” قانون العودة ” وبأنهم يعتنقون الديانة المسيحية.. إلّا أنه في عام 1973 اعترف الحاخام الأكبر لليهود الشرقيين في اسرائيل (يوسف عوفاديا) بيهودية الفلاشا لتبدأ بعدها عمليات التحضير لجلبهم إلى إسرائيل سرّاً بالتعاون مع حكومة هيلاسيلاسي في أثيوبيا وحكومة جعفر النميري في السودان وبإشراف مباشر من قبل المخابرات الأمريكية والموساد.
عملية موسى: أطلق على أول عملية نقل بالطائرات (جسر جوي) لليهود الأثيوبيين إسم ” عملية موسى ” في عام 1984 , حيث تم نقل عشرة آلاف يهودي من معسكرات أقيمت لهذا الغرض على الحدود السودانية ـ الأثيوبية مباشرة إلى مطار الخرطوم تحت حراسة أمنية مشددة، ومن ثم نقلهم باسطول من الطائرات التي قام بتأمينها رجل أعمال يهودي بلجيكي، وبحضور السفير الأمريكي شخصياً.
ثم تلتها ” عملية سبأ ” عام 1985، لتتوقف العمليات بسبب التحقيقات التي جرت في السودان بعد افتضاح تورط الأمن السوداني بعملية ” موسى “، ثم استؤنفت بعملية كبيرة عام 1991 تحت إسم ” عملية سليمان ” لنقل (14000) يهودي من أديس أبابا إلى تل أبيب خلال (36 ساعة) على متن أربعين طائرة عملاقة من طراز هيركوليز.
لقد كانت عمليات النقل السرية تتم بمساعدة المخابرات الأمريكية بالإضافة إلى الضغوط الدبلوماسية التي كانت تمارسها الإدارات الأمريكية المتعاقبة على النافذين في المنطقة لتحقيق هذه الغاية، ومن أبرز الشخصيات التي اضطلعت بهذه المهمة جورج بوش عندما كان يشغل منصب نائب الرئيس عام 1984 وحرص بنفسه على نجاح عملية موسى، وكذلك الأمر حينما أصبح رئيساً للولايات المتحدة في عملية سليمان 1991 .
لكنّ اليهود الأثيوبيين الواصلين إلى إسرائيل لم يجدوا ماكانوا يحلمون به، وعانوا من الإهمال والتهميش ولم يستطيعوا الاندماج في الوسط اليهودي. فظلّوا على ماهم عليه من فقر وأمية، وشكلوا تجمعات سكانية على أطراف المدن يسكنون بيوت الصفيح ويعملون بأجور رخيصة وفي قطاعات لا تحتاج إلى تأهيل علمي مثل النظافة وقطاع التغذية.
“وتشير تقارير إعلامية إلى أن الفلاشا القادمين خلال الموجة الأولى من هجرتهم وحتى موجات تالية لا يتقنون اللغة العبرية ولم يتمكنوا من التأقلم مع المجتمع رغم برامج الاندماج التي أطلقتها الحكومة.”
وعلى الرغم من مزاعم إسرائيل أنها تسترشد بقيم الديقراطية والتعددية والمساواة. إلّا أن الأثيوبيين يؤكدون بأنهم يعانون من التفرقة العنصرية بشكل واضح وفي مجمل تعاملاتهم اليومية ما يعيق مجتمعهم ويبقيهم في مستوى متردي اقتصاديّاً وعلمياً واجتماعيًا.
في الإحتجاجات الأخيرة التي قام بها اليهود الفلاشا على إثر مقتل الشاب الأثيوبي سولومون (18 عاما) برصاص شرطي إسرائيلي في حيفا بتاريخ 29 حزيران الفائت، وأطلق سراح الشرطي بعد يومين فقط من حادثة القتل، كان المحتجون يصرخون بوجه الشرطة ” حياة الأسود مهمة ” وهو اتهام صريح بالعنصرية والتمييز اللتان يعانونها ويؤكدها الكاتب اليساري الإسرائيلي “ب. ميخائيل” (هآرتس): “كان من الجدير تحذير يهود الفلاشا قبل نقلهم لإسرائيل عام1984 كان يجب إبلاغهم بأن الوطن الذي يُعرض عليهم هو دولة من الدول العنصرية جدا على وجه الأرض. تغصّ بالعنصرية الدينية والقومية والعرقية والجينية المتعلقة بالجنس واللون “.
وقد وصل الحنق والغضب بيهود الفلاشا أن هتفوا ضدّ إسرائيل ونعم لفلسطين بل زادوا عليها بأن صرخوا ” الله أكبر “.
وذلك إمعانا في إزعاج السلطات الإسرائيلية وإسماعها ما لا ترغب بسماعه، كيف لا وقد خرجت من حناجر اليهود الذين تدّعي بأنها هي من تحميهم من الإضهاد بجلبهم إلى واحة الحرية والديمقراطية.
لم تكن تتوقع الدوائر السياسية في إسرائيل أن يخرج من مجتمعها من يفضح عنصريتها، وهي محرجة تماماً في التعامل مع هذه الإحتجاجات إذ لا تستطيع اتهام اليهود بذات التهم التي ترمي بها العرب الفلسطينيين.
هذه الإحتجاجات لم تكن الأولى ففي العاشر من كانون الثاني 2012، اقتحم نحو 3آلاف إسرائيلي من أصل إثيوبي مقر الكنيست، احتجاجا على العنصرية ضدهم، بعد الكشف عن رفض تجمعات لليهود البيض في جنوب إسرائيل بيع أو تأجير بيوت لليهود الإثيوبيين.. كما جاء في جريدة مصريون الالكترونية أيضا نقلا عن أحد المتظاهرين قوله:” أن تكون إثيوبيا في إسرائيل يعني أن تكون منبوذا، ومستضعفا، وموضع شك “.
في هذا السياق لابد من التذكير بالممارسات العنصرية تجاه الفلسطينيين وجدار الفصل العنصري الذي أقامته لعزل المناطق التي يقطنها الفلسطينيون عن بساتينهم ومزارعهم بحجج واهية من أجل الإستيلاء عليها وبناء المزيد من المستوطنات.
وفي غمرة الحديث عن ” صفقة القرن ” تأتي إحتجاجات الفلاشا الأخيرة كـ ” صفعة ” تلقاها نتنياهو المنتشي باندفاع صديقه ترامب وتهافت بعض الحكام العرب لإرضاء واشنطن وتل أبيب، ولن يحصدوا جميعا هذه المرة سوى الخيبة والمزيد من الإنقسامات في المجتمع الإسرائيلي المشبع بكل أشكال التمييز والعنصرية.