أرنست خوري
كلما ازداد منسوب الإجرام الأسدي ــ البوتيني ــ الخامنئي في حق الشعب السوري، ارتفعت وتيرة الثرثرات الهامشية التي لا طائل منها سوى إشاحة الأنظار عن حجم المجزرة وهوية المجرم. هكذا كان عليه الحال في السنوات الثماني للثورة ــ المذبحة، وهذا ما يستمر بنجاح منقطع النظير. تنطلق مجزرة فتتكثف اللقاءات حول المنطقة الآمنة التي تريدها تركيا لإطفاء خطراً كردياً في شرق الفرات. تتكثف الإبادة فتقحم المزحة السمجة المسماة لجنة دستورية نفسها على أجندة الثرثرات التافهة. بعض السخافات خجلت من نفسها فارتأت الانسحاب من المشهد مع عرابيها. عشرات الاجتماعات في جنيف طرحت أوراقاً وتناوبت عليها لجان عمل عندما كانت عواصم التاريخ كحلب تُباد، لمناقشة حجم الكوتا النسائية والمجتمع المدني في أوهام الحل السياسي العتيد. مَن يذكر اليوم أن شخصاً اسمه غير بيدرسون هو مبعوث دولي خاص إلى سورية؟ من يأبه باجتماعاته التي نصفها كإعلاميين ببلادة بأنها “مكوكية” في عواصم القرار السوري الموزعة بين موسكو وأنقرة وطهران؟ هل من كلمة مفيدة تُسجل في رصيد الرجل منذ تعيينه خلفاً لذاك الإيطالي ــ السويسري استيفان دي ميستورا في أكتوبر/تشرين الأول 2018، سوى ما افتتح به “ولايته” باجترار نظرية سلفه إياه: سياسة الأمم المتحدة في سورية تترجم موازين القوى الدولية المعنية بهذا البلد؟
ربما يكون فلاديمير بوتين، بدمويته الموصوفة، وموهبته الأمنية العتيقة، وكرهه الفطري الموروث من عصر السوفييت لتحرر الشعوب، هو الحاكم الوحيد الذي قرأ التكالب العالمي باكراً: ذات سبتمبر/أيلول 2015، عندما كانت أميركا ــ باراك أوباما غارقة في حملاتها الانتخابية الرئاسية، كان نظام بشار الأسد يوضّب حقائبه للتوزع بين المنافي الإيرانية ــ الروسية ــ الصينية التي يمكن أن تؤوي رموزه. كانت مدن النظام تتساقط بيد الفصائل المسلحة، ودمشق تترقب ساعة الصفر، ونظامها يسيطر على 20% فقط من أراضي سورية. غامر بوتين، فضرب ضربته القاضية مدركاً أن أحداً لن يواجهه، سوى بالعتاب، وهو ما تحقق له بالفعل: اختارت أميركا ــ أوباما وضعية القرد الذي لم يسمع ولم يرَ فلم ينطق بكلمة. استوعب “أصدقاء الشعب السوري” من الحكام العرب الرسالة، وانقسموا بين ملتحق فعلياً بـ”الرؤية الروسية للحل”، أي بالإبقاء على النظام على حساب التخلص من نصف الشعب السوري على الأقل إحقاقاً لـ”تجانس المجتمع السوري”، في نسخة أسدية حديثة لنازية القرن الواحد والعشرين، وبين مردِّد لبكائية الصالونات المغلقة: إن كانت أميركا نفسها غير راغبة بإطاحة الأسد، فما الذي نحن بقادرين على فعله؟ والصادقون بين هؤلاء “الأصدقاء” لم يترددوا في الاعتراف بأن نفطهم وغازهم كان سيتعرض لعقوبات دولية فقط لو كسروا الفيتو الأميركي وزوّدوا فصائل المعارضة السورية بصواريخ محمولة تُسقط الطائرات الحربية. تثاءبت أوروبا بيانات ممجوجة. اغتاظ أردوغان فحوّل غضبه نحو الأكراد، وانتهت الحكاية: حكمة العام 2015 تفيد بأن من يتجرأ على الضرب أولاً، يكسب وحيداً، إلا إن احتسبت بيانات التنديد بـ”السلوك الروسي غير المسؤول” في خانة الخسارة.
اليوم، يدرك بوتين أن إبادة إدلب وحماة وريفهما، الآخذة في الاتساع منذ إبريل/ نيسان الماضي، لن تواجَه بأكثر من زعل تركي مرشح لأن يتقزم إلى عتاب، العتاب المعروف والطبيعي بين الحليفين والذي ينتهي بجلسة مصالحة يرعاها الحليف الإيراني المشترك مثلاً. يشاهد بوتين الطلاق الغربي ــ التركي يتمدد ويقهقه ويرفع كؤوس الفودكا عالياً. وعندما يأتيه مسؤول تركي يلومه على كسر اتفاقيات أستانة وتفاهمات مناطق خفض التصعيد، يستدعي سيرغي لافروف وبقية الجوقة، ويتمنى عليهم إبداء بعض المرونة في زيادة عدد ممثلي المجتمع المدني والمعارضة في اللجنة الدستورية، ويسارع ميخائيل بوغدانوف إلى تذكير ضيوفه بأن روسيا كانت وما زالت ضد إقامة دولة كردية على حدود تركيا… وتنتهي الحكاية.
المصدر: العربي الجديد