أيمن أبو هاشم
من حيث لجوئي العالق بين حواف القلق وأسوار الحدود، يحط عقديّ الخمسين رحاله على شظايا الأحلام المضرجة بالخذلان، وينكأ ليل غازي عنتاب كل الجراح الغائرة في ذاكرة المنافي. أستعيد كما يفعل اللاجئ حين تحاصره الخيبات، ما تبقى من كبرياء علّه يُداري المواجع الثاوية في تلافيف الروح، وأغرف من مداد الصبر قليلاً من حكمة التحايل على أزمنة اليباب. لكن أقدارنا تفضح عبثية هذه الحكمة، ولا جدوى الاتكاء عليها، طالما أن من يوصدون أبواب الحياة في وجوهنا لا يكترثون لصرخاتنا المكتومة. طفق الكيل من تجرع هذا الكم الهائل من التمادي المشين، على حيواتنا وكراماتنا وأحلامنا، وقد أضحى انتهاك حقوقنا، نحن معشر المنفيين من أوطاننا، لعبةً يتهافت عليها المستثمرون في نكباتنا، ويتناوبون حكوماتٍ ومعارضاتٍ وإمعات، أيهم أكثر تجبراً في تحويلنا إلى قطعان بشرية هائمة على أعقابها. تتلاشى الفوارق في بقع لجوئنا المتناثرة، وتغدو المقارنات بين الحدود المغلقة على أنفاسنا، وبين ما تبقى لنا من قدرة على احتمال الاختناق، عديمة الجدوى طالما أننا مجرد ملفات وأرقام في عيون الأشقاء والجيران.
أعلم أن ما أبوح به مما لا يمضغه منطق إسكات الضحايا، وثقافة تحويلهم إلى كائنات منبوذة، لا يحق لها حتى نبش أنينها ورميه في وجه هذا العالم المنافق. مع ذلك ومهما كانت ضريبة نزع الأقنعة باهظة الثمن، تبقى رواية الحقيقة خط دفاعنا الأخير عن تشبثنا بالحياة الكريمة، في زمن تعددت فيه كواتم الصمت كي لا يصبح لموتنا معنى. لم يعد قلبي وعقلي يحتملان بشاعة التأطير السافر للجوئنا القسري، وكل هذا الامتهان الذي علينا التسليم به، كي تتعظ الشعوب من دروس ثورتنا اليتيمة وفواتيرها المروعة.
لا شيء أعبّر فيه عمّا يدفع أجيالنا المنكوبة، إلى ملاقاة هذا الجحيم وظهرها للحائط، سوى الغضب الذي ورثته، مذُّ عرفت من حكايا آبائي وأجدادي، ما فعله التواطؤ الدولي مع الاغتصاب الصهيوني، في التأسيس لنكبتنا الأولى، الممتدة على سبعين عاماً وأكثر من التشرد والضياع، وهذا ما ترسخ أيضاً من تجربتي الفلسطينية السورية، حين تخلى العالم عن الشعب السوري، وتركه وحيداً يواجه إجرام الأسد وحلفاءه، حتى أصبح نصفه لاجئاً ومشرداً في دروب التيه، وموزعاً بين دولٍ وسياساتٍ لكلٍ منها نصيبه في استحالة الثورة السورية، إلى قضية تنزف دماً ودموعاً لا ينضبان.
كفاكم أيها المتغافلون عن نصيبكم من مآسينا، أيها الشركاء حسب أدواركم في إهدار إنسانيتنا بلا شفقة، ولأنكم المتمرسون بالشعارات وترسانة تبرير فشلكم على مشاجب ظهورنا المقصومة، كفاكم تمادياً في المداورة على أوجاعنا، كأننا حقل رماية لتدريب جموعكم على شيطنة صورتنا بلا هوادة.
نحن اللاجئون أوفياء، ولا ننسى من وضعوا الانحياز لإنسانيتهم فوق كل اعتبار، لكنكم يا حكام وساسة هذا الزمن الأغبر، جاحدون لذاكرة التاريخ والحق، لا فارق بينكم سوى في حصة كلٍ منكم من أرضنا وإفساد ثورتنا، وإهدار حقوقنا المسفوحة على موائد صراعاتكم وتسوياتكم. من دمنا وآلامنا اكتشفنا حقيقتكم بلا رتوش أو أقنعة، سواء من شارك الأسد السفاح في قتلنا وحصارنا وتهجيرنا بلا خجلٍ أو وجل، أو من انتهك حقوقنا وغلّف ممارساته العنصرية، تارةً بدواعي خشيته من التوطين، وتارةً للتغطية على سرقات حكومات النهب والفساد، وتارةً بحجة الدفاع عن أمنه القومي، وتارةً توظيفنا في لعبة الصراعات على السلطة، وتحميلنا حتى أوزار دعاياتكم الكاذبة، على حساب بؤسنا الطافح.
في يقيني وورائي خمسة عقود من تكرار محاولة النهوض واستيلاد الأمل، أعلم اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، أننا المقتلعون من أوطاننا، أمام خياراتٍ أحلاها أمرّ من العلقم، وأن مصيرنا المسفوح على خرائط الغياب، أضحى موضوعاً للمساومة والمقايضة، والتلويح بنا كنفايات ترومون التخلص منها بعد استحلابها، وأن من يتصدرون تمثيل حقوقنا وأوجاعنا، لا يشبهون نكباتنا ولا ينتسبون إلى همومنا. وأدرك أننا أصبحنا الشهود المنبوذين، في مسارح التدجين والتأديب لكل من يتقن فنون التمثيل على شعبه.
مع كل ذلك ما زال فينا نبضُ الرواية، لن يتوقف حتى لا تنتصر رواياتكم الزائفة على أشلائنا، وكما سخر أطفالنا من عُري الطاغية رغم كل أسلحته الفتاكة، لن نسامح من استخف بأرواحنا الحرة، ومن استهان بدموع أمهاتنا الثكلى، وقبل ذلك لن نغفر للمتاجرين بأنبل القضايا من أبناء جلدتنا. من ناصروا السفاح وشركاءه، ومن صمتوا على مجازره المروّعة، ومن خانوا دماء شهدائنا وصرخات معتقلاتنا.
لدينا ذاكرة النار وسنلقيها في وجه هذا العالم الكالح، كي لا تذهب خساراتنا هباءً منثوراً، وبعيون أطفالنا التي تقدح شرراً من تحت الركام، ستكبر معهم روايتنا الراسخة بين تواريخ مصائبنا، وأنا الفلسطيني السوري سأحتفي بوداع عقديّ الخمسين رغم كل طوفان الألم، لأنني عشت زمن تصدع جدران الخوف، وسقوط كل الأوهام والأكاذيب الصغرى والكبرى، وما أكثر المشاركين والمتورطين فيها. من “عتاة المقاومة” وهم يعبُرون طريقهم إلى القدس على جماجم أهلنا في القصير وحلب ودير الزور، إلى المستثمرين في أسلمة الثورات، وعيونهم على مغانمها، ثم المنقلبين عليها كي لا تفوتهم عطايا الملالي، والصلاة خلف أئمته الحاقدين على عروبتنا. في امتحان الضمير بانت فلول اليمين واليسار على حقيقتها، وحتى “المؤتمنين على القضية وممثليها الشرعيين” لم يخجلوا من الاحتفاء بتدمير مخيم اليرموك، وفوق رؤوسهم المطأطأة صور قاتل أبناءهم ومغتصب بناتهم.
كان قاع السقوط أعمق بكثير مما تخيلنا، وكلما هوى إليه شخصٌ أو حزبٌ أو كيان، اتضح أنه يتسع أكثر لموجاتٍ من المتساقطين على الطريق. وحدها بقيت أصوات القابضين على جمر الحق، متراسنا الأخير ونحن نزف شهيدنا الساروت إلى علياء المجد.
لم أعاند القدر يوماً، ولا أعرف كيف ينتقي الشهود الأحياء، ويترك لهم فسحةً من الوقت كي يرثوا الشهداء، ولا يهمني بعد هذا العمر الجائل بين محطات الأسى، من يكترث لشغفي بمعرفة النهايات، إذ يكفيني ملامسة المعنى النبيل للقلوب الناجية من شرور الحياة، ولن يقتلني بؤس اللجوء مهما أضناني الخذلان، لأن البوابات والحدود لم تطفئ ذاكرتي، ولن تأسر صرختي، فلا شيء يخسره المرء أكثر من استرضاء الذل بعد أن تغلغلت أنسام الحرية في مسامات روحه.