يعتبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الزعيم العالمي الأكثر أهمية منذ رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل. ولولا استقالة الرئيس السابق بوريس يلتسن بسبب المشاكل الداخلية وتعيينه بوتين خليفة له، لكان تاريخ روسيا الحديث اختلف بشكل جذري على الأرجح.
لم يكن بوتين يحظى بأي شعبية على الساحة السياسية عندما أصبح رئيسا في 19 أغسطس/آب 1999، كما أن المنطقة كانت تعيش على وقع أزمات تنذر بالأسوأ مثل تورط شمال القوقاز في الحرب الأهلية واضطرابات متعددة في مناطق أخرى، وفقا لما ورد في مقال لمراسل صحيفة الإندبندنت البريطانية في موسكو أوليفييه كارول.
ولكن الرجل الذي لم يكن يحظى بتلك الشعبية حكم روسيا وما زال يحكمها منذ نحو عشرين عاما، وخلال هذين العقدين ترك الشاب البيروقراطي من سان بطرسبرغ بصمته في كل مجالات الحياة الروسية تقريبا.
أنا الزعيم الأوحد
منذ استدعاء يلتسن لبوتين ذي 46 ربيعا (آنذاك) وإيلائه زمام الأمور، حافظ النظام السياسي في روسيا بشكل كامل على توجه قوامه الاستبدادي المتزايد، حيث قضى بوتين معظم سنواته الأولى في إخضاع السلطات التنفيذية ومضاعفة سيطرة الدولة على الاقتصاد وإعادة إحياء دور القوات الأمنية السرية.
ذكر الكاتب أن فترة حكم بوتين شهدت توجهين مختلفين، فكان عنوان المرحلة الأولى الشعبوية وتأييد الغرب والولايات المتحدة، فضلا عن إصلاح السوق الحرة في الداخل، لتستمر موسكو في دعم هذا التوجه حتى سنة 2007.
أما بالنسبة للفترة الثانية، فقد قامت بالأساس على فكرة “السيادة”، وهو ما انبثق عنه لاحقا ضم جزيرة القرم في 2014 وشن حرب على أوكرانيا، مما عزز مفاهيم أخرى مثل العزلة والاقتصاد السيادي.
الصورة المنمقة
يجزم الكاتب أن بوتين تمكن خلال سنوات حكمه من إحداث تغيير عميق في روسيا، ولكن روسيا غيرت بوتين أيضا، فقد كان عند بداياته غير مستعد للظهور أمام الشاشة الكبيرة ولم يعتد أن يكون مركز الاهتمام.
في المقابل، بات بوتين اليوم بمثابة “أيقونة” بحد ذاته، حيث تغزو صوره القمصان وتوضع على الأكواب والساعات وغيرها من المنتجات، فهو بالنسبة للروس مدير الأزمات ومصلحها والمدافع عن الأمة.
وبيّن الكاتب أن صورة القائد الروسي بقيت على حالها في ظل انهيار شعبية كل شخص عمل تحت قيادته، كما أن فترته لم تشهد سوى ثلاثة اضطرابات فقط.
وكانت الصدمة الأولى التي تلقتها إدارة بوتين في 2005، وذلك بعد تلقي ردود فعل سلبية على الإصلاحات الاجتماعية، كما شهد عام 2011 أخبارا بتزوير الانتخابات البرلمانية، في حين عارض تسعة من عشرة أشخاص إصلاح المعاشات التقاعدية العام الماضي.
وعلى الرغم من ذلك، ما زال بوتين يتمتع بأغلبية ساحقة وتأييد كثيرين، حيث يحتفظ 20% فقط من الروس برأي سلبي عن نظامه، ويقول خبير استطلاعات الرأي ليف جودكوف، إن الناس يفهمون أن بوتين يمثل مصالح الجيش والكتل الأمنية، وأنه كذلك مستعد لخنق أي معارضة.
“الوغد الحالم”
مع قدوم بوتين إلى السلطة كانت هناك إمكانات محدودة بالنسبة للديمقراطيين الليبراليين. وفي حين مثلت السنوات العشر التي تلت انهيار الاتحاد السوفييتي فرصا مذهلة لبعض الروس، فإنها كانت على النقيض من ذلك سنوات حياة أو موت، ومعركة متواصلة من أجل البقاء بالنسبة للغالبية العظمى منهم، وفقا للكاتب.
وقد سعى الرئيس الأسبق يلتسن إلى الاستحواذ على المجتمع المدني وتقييد الحقوق الممنوحة له، فعهد بهذه المسؤولية إلى ضابط المخابرات فلاديمير بوتين. وفي منتصف العقد الأول من القرن 21، عمل بوتين على تعديل الحقوق التي تعنى بالتجمعات العامة، فبات إجراؤها الآن يتطلب الحصول على إذن مسبق من السلطات.
وتتالت القيود المفروضة على المواطنين لتبلغ درجة العبثية، حيث سبق للبعض منهم التعرض للاعتقال نظير نشر بعض القصص على موقع فيسبوك. وفي سنة 2018، فُرِضت غرامة على نجار عاطل عن العمل بسبب نعته لبوتين بأنه “الوغد الحالِم”، وذلك عن طريق توظيف قانون جديد يعاقب من يسيء إلى المسؤولين على الإنترنت.
أورد الكاتب أن القمع الذي انتهجته إدارة بوتين قابله المواطنون بمعارضة خفيفة، حيث باتوا مستعدين لتقديم بعض التنازلات نظير ملء ثلاجاتهم والابتعاد عن حياة الفقر، وبفضل ارتفاع سعر النفط، نجح بوتين في تحقيق ذلك للمواطنين (الإيفاء بجانبه من الصفقة)، وأنهى ولايته الثانية بصفته واحدا من أنجح القادة الروس.
ميدفيديف.. فاصل رئاسي
بيّن الكاتب أنه في حال أراد الرئيس الروسي تغيير الدستور والبقاء في منصبه، لم يكن ليلاقي معارضة شرسة، لكنه صار رئيسا للوزراء في 2008 تاركا منصبه إلى ديميتري ميدفيديف. وفي تلك الفترة، شعر العديد من مسؤولي الدولة الروسية بالنشوة لأنها كانت المرة الأولى التي تسلم خلالها السلطة بطريقة سلمية دون موت أحد أو حدوث حالة طوارئ.
وفي نهاية المطاف، تحولت ولاية الرئيس الجديد إلى فترة قوامها عدم الاستقرار السياسي والاحتجاجات الجماعية. ومن جهته، أعرب بوتين آنذاك عن ندمه لتسليم السلطة إلى ميدفيديف وبدأ يقاتل من أجل الحكم مرة أخرى. وفور توليه السلطة مجددا في 2012، عمل بوتين على عكس كل شيء كان ميدفيديف قد طبقه تقريبا.
وأشار الكاتب إلى أن الرئيس السابق ميدفيديف سعى إلى الانخراط مع النخبة الليبرالية وصفوف المبدعين في روسيا، كما ظهر أيضا على محطة دوزهد تي في قناة تلفزيونية معارضة، ولكن عند عودة بوتين إلى الحكم، اتخذت السياسة الداخلية الروسية اتجاها آخر.
في هذا الصدد، تقول تاتيانا ستانوفايا -زميلة غير مقيمة في مركز كارنيغي في موسكو- “رأى بوتين ضرورة لتجميع الحشود من حوله، لذلك سعى إلى اتباع التزام جديد مع من اعتبرهم الأغلبية الديمقراطية. وقد كانت هذه هي المرة الأولى التي نسمع فيها مناقشات حول الأسس الروحية للأمة والقيم الأسرية والموجة الوطنية التي أفضت إلى الاستيلاء على شبه جزيرة القرم”.
ومنذ أواخر عام 2011، اختار بوتين اتباع نهج “أكثر أخلاقية” في روسيا، فكان هناك تمسك بالحياة الصحية في البلاد وفرض للقيود على المحتوى الإباحي على الإنترنت، وأدخل في عام 2013، تشريعا جديدا مثيرا للجدل ضد ما يسمى “بالدعاية للعلاقات غير التقليدية” بين القُصّر.
القتل خارج الحدود
يمتلك بوتين -وفقا لكاتب المقال- وسيلة أكثر تطورا لتتبع أعدائه، وكانت حادثة اغتيال ألكساندر ليتفينينكو الشنيعة في نوفمبر/تشرين الثاني سنة 2006 نقطة تحول مهمة في فترة رئاسة بوتين.
وقد أُذيع خبر وفاة الجاسوس الروسي السابق بسبب مادة بولونيوم 210 في جميع أنحاء العالم، وبعد عشر سنوات من موته، أكد تحقيق بريطاني أن موت ليتفينينكو على يد عميلين روسيين كان بعلم من بوتين نفسه.
لا يعتبر القتل المتعمد على أراض أجنبية أمرا جديدا على بوتين، ولكن وجه اختلاف عملية ليتفينينكو، كان في الطريقة والمكان اللذين وقعت بهما عملية الاغتيال، وقد كان ذلك بمثابة بداية نشاط جديد للقوات السرية الروسية.
وأشار الكاتب إلى أن الرغبة في المخاطرة وصلت إلى مستويات جديدة مرة أخرى في عام 2018، بعد محاولة تسميم العميل المزدوج سيرغي سكريبال بغاز الأعصاب في مدينة سالزبري.
تصفية المخالفين
وأضاف الكاتب أن العملية الفاشلة التي وقعت في سالزبري أظهرت أن الكفاءة ليست بخاصية أساسية في نظام بوتين، وغالبا ما يحظى الولاء بأهمية أكبر منها، فخلال عشرين عاما، عيّن بوتين أربعة من حراسه الشخصيين السابقين حاكمين إقليميين ومنح الكتلة الأمنية دورا متميزا على حساب السياسة الداخلية.
وفي فبراير/شباط 2003، تجرأ أغنى رجل في روسيا ميخائيل خودوركوفسكي، على انتقاد السياسة التي اعتمدها الكرملين بشأن الفساد، خلال اجتماع تلفزيوني مع الرئيس. وبحلول نهاية العام، اعتقل خودوركوفسكي وبعد عام من ذلك، سلبت منه شركاته الرئيسة المنتجة للنفط، حيث كانت هذه العملية جزءا من الحرب الموجّهة ضد الأقلية الحاكمة.
وبطريقة أو بأخرى، أُجبر الذين لم يوافقوا على الابتعاد طواعية عن السياسة على الانسحاب، مثل بوريس بيريزوفسكي الذي عثر عليه ميتا في منزله البريطاني في عام 2013.
الفساد في عهد بوتين
من بين الإنجازات التي تحقّقت خلال حكم بوتين -وفقا للكاتب- الانخفاض الهائل في نسبة الفقر المدقع، وقد تحقق ذلك على إثر أسعار النفط المرتفعة وجدول أعمال إصلاحي مبكر، فضلا عن عدة سنوات من النمو المرتفع.
وبين عام 1999 و2008، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي الروسي بنسبة 94%. وفي المقابل، قدّمت الإصلاحات الشفافة التي أجريت خلال فترة حكم ميدفيديف للصحفيين والمحققين الأدوات اللازمة لفضح هذا الفساد.
علاوة على ذلك، أطلق السياسي المعارض أليكسي نافالني مجموعة من التحقيقات حول التعاملات المشبوهة لأقرب مساعدي بوتين، لكن لم تكن لهذه التقارير أي عواقب على الشخصيات المعنية. وفي المقابل، أصبح نافالني عرضة للتحقيقات الجنائية وفترات سجن متكررة.
وذكر المستشار السياسي غليب بافلوفسكي أنه “بمجرد انضمام الناس إلى دائرة بوتين، فإنهم يصبحون فاسدين، ولكن هل كان بوتين نفسه فاسدا؟ ليس الأمر من هذه الناحية بالمهم جدا، لأن غالبية القرارات منبثقة عن محكمته وهي منظومة فاسدة من رأسها إلى أخمص قدميها”.
وعلى مستوى التعاطي مع وسائل الإعلام بين عامي 1999 و2019، مرّت وسائل الإعلام الروسية بفترة حافلة وانتصارات متقطعة، وواجهت وسائل الإعلام خلال فترة حكم بوتين عدوا صعبا. وفي مرحلة أولى، لاحق النظام وسائل الإعلام التلفزيونية الجماهيرية، ومن ثم لاحق الصحف المطبوعة على غرار الصحف الشعبية، ونخبة من صحف الفضائح.
وأوضح الكاتب أنه خلال الفترة بين عامي 2011 و2012، واجه الجمهور الروسي مستوى جديدا من الزيف والتضليل. وأورد الصحفي الاستقصائي أليكسي كوفاليف من خلال العمليات الأوكرانية التي جدّت بين عام 2014 و2015، أن الكرملين قد تجاوز الحدود، إذ صرّح بأن “وسائل الإعلام الحكومية تعتبر كل معارضة لبوتين نوعا من عمل الجواسيس، كما أطلقت نظريات المؤامرة والأكاذيب دون توقف وبجميع لغات العالم تقريبا”.
وعلى الرغم من هذا الكم من القمع، تمكنت الصحافة المستقلة من النجاة خاصة على الإنترنت، فخلال بداية حكم بوتين، لم تتجاوز نسبة السكان النشطين على صفحات الإنترنت 2%، لكن هذا الرقم ارتفع إلى أكثر من 80%. وفي هذا السياق، لا يبدو أن لدى الكرملين أي إستراتيجية متماسكة حول كيفية التعامل مع هذا التحدي الرقمي.
الحروب الدموية
وأوضح الكاتب أنه في حين تحظى الدعاية المتعلّقة بنجاح بوتين المحلي بأهمية أقل من أي وقت مضى، إلا أن الروس يصدّقون إلى يومنا هذا الروايات المتعلقة بإعادة تأسيس الدولة بصفتها “قوة عظمى”.
وفي الواقع، سوف يتذكّر الناس روسيا التي حكمها بوتين بسبب حروبها الدموية في الشيشان وجورجيا وأوكرانيا وسوريا والنهج المتهور الذي تتبعه بخصوص حياة المدنيين الذين يعيشون على أرضها ويطيرون في سمائها.
إلى جانب ذلك، سوف يتذكّر الناس روسيا بسبب الزيادات الهائلة في النفقات العسكرية، التي ارتفعت من 4.9% إلى 16% سنويا بين عامي 2010 و2016، قبل أن تتراجع نسبيا.
لم تكن السياسة الخارجية تحمل أخبارا سيئة دائما، فعلى سبيل المثال، تمكّن الدبلوماسيون الروس عام 2004 من إيقاف صراع دام قرنا كاملا من خلال توقيع معاهدة سلام طال انتظارها مع القبائل الهندية الأصلية في ألاسكا.
روسيا دون بوتين
وأردف الكاتب أن الاحتجاجات النشطة هذا الصيف بخصوص الانتخابات الحرة والسياسة الحادة التي أثارتها في بادئ الأمر، تشير إلى تعرّض النظام الحاكم إلى أزمة من نوع ما، رغم أن حركة الاحتجاج تقتصر إلى حد كبير على العاصمة، التي يسودها الاضطراب.
من جهة أخرى، تنتهي ولاية بوتين الثانية على التوالي في عام 2024، وما لم يتغيّر الدستور، فإنه لن يتمكن من البقاء رئيسا، وحتى في حال أراد المغادرة، فمن المحتمل أن يواجه معارضة من دائرته الداخلية، التي تحتاج إليه أكثر مما يحتاج إليها.
وفي هذا الشأن، هناك العديد من الاحتمالات التي تمّت مناقشتها من قبيل إجراء تغيير دستوري يقوم على منح السلطة للبرلمان وتعيين بوتين رئيسا للوزراء، أو اعتماد نموذج اختاره الرئيس الكازاخستاني نور سلطان نزارباييف، يتمثّل في تعيين بوتين رئيسا لمجلس الأمن في البلاد.
في المقابل، يمكن النظر إلى الاحتمال الأخطر من كل هذا، وهو تنصيب بوتين رئيسا لدولة عظمى موحدة جديدة مع روسيا البيضاء، وهذا تحد من غير المرجّح أن يكون مرحبا به في العاصمة مينسك.
المصدر: الجزيرة نت