بكر صدقي
نشر زياد ماجد، قبل سنوات، كتاباً عن الثورة الشعبية في سوريا حمل عنوان «الثورة اليتيمة». من منظور اليوم قد يمكننا القول: ليتها كانت كذلك أو بقيت كذلك! ليت عديد الدول والقوى ما دون الدولة تركت تلك الثورة لبراءتها الأولى ويتمها، ولم تتنطح لأبوتها، فأدخلتها في مسارات غريبة عن منطلقاتها.
ولكن ألم يكن من شأن تركها يتيمة أن يقضي عليها النظام في مهدها؟ نعم، على الأرجح. ربما هذا ما جعل أكثرية جمهور الثورة أو «شعبها» يغض النظر عن تدخلات الدول وتسللات الجهاديين والسيطرة المتدرجة للخطاب الإسلامي وانتشار السلاح، من جهة لأن التطورات المذكورة كانت خارج سيطرة شعب الثورة وبمعزل عن إرادته، ومن جهة ثانية لأن هذا الشعب أمل أن تسرع تلك التدخلات والتسللات من عملية سقوط النظام، كفاتحة لا بد منها لمرحلة جديدة مفتوحة على الاحتمالات.
أما أقوياء العالم فكان لهم رأي آخر. لا أحد يمكنه أن ينسى ذلك الكلام المهين بحق الثورة الذي صدر من رئيس الدولة العظمى الوحيدة في عصرنا: «إنها ثورة فلاحين وأطباء أسنان!» قال باراك أوباما بكل صلف الرجل الأبيض المختبئ تحت جلده الداكن. لا نعرف ما هي المهن المقبولة بالنسبة لهذا الرجل ليقوم أصحابها بإطلاق ثورة ضد نظام بهيمي شعاره تدمير البلد الذي يحكمه.
أما روسيا فقد وضعت كل ثقل أسلحتها الفتاكة للحفاظ على مجرم من عيار بشار الأسد وعصابته في موقع حكم بلد يكرهانه ويكرهان سكانه إلى درجة استسهال إبادته. وبلغ الأمر بالأمم المتحدة أنها تعامل تلك العصابة المجرمة معاملة «حكومة شرعية» فتعتمدها قناةً وحيدة لإيصال المساعدات إلى المنكوبين بسببها! حكومة شرعية على رغم إدانتها باستخدام السلاح الكيماوي مراراً وتكراراً لضرب التجمعات السكنية للمدنيين!
الثورة اليتيمة لم تترك لشأنها لتنتهي يتيمة، بل تعدد آباؤها وأعداؤها معاً. منذ بعض الوقت، وعلى وقع الهزائم الأخيرة للفصائل المسلحة، والتحاق قسم منها بالأب التركي، تصاعد سجال بين الإسلاميين والعلمانيين، فاتّهم الأولون الثانين بعدم فعل شيء من أجل الثورة، ناسبين اليتيمة المذكورة لأنفسهم، من غير أن يخطر لهم مجرد خاطر محاسبة أنفسهم على ما فعلوه بها بسبب شهوتهم الجامحة إلى السلطة التي أعمتهم عن شيء يسمى بالمصلحة العامة أو الوطنية.
أما شعب الثورة فهو يتيم فعلاً، سدت في وجهه جميع الأبواب. طوردوا وقتلوا وهجروا وعفشت ممتلكاتهم وتفرقت السبل بأفراد أسرهم في شتى البلاد. وها هم في منافيهم ومهاجرهم وملاذاتهم، وقد ضاقت بوجودهم صدور أهالي تلك البلدان وحكوماتها. منذ سنوات والحدود مغلقة في وجوه من تبقى منهم في الداخل، فراحوا ينزحون من منطقة إلى أخرى لا يستقر بهم مقام حتى تلاحقهم القنابل والبراميل فيهربون من جديد. أما أولئك «المحظوظون» ممن سبق ولجأوا إلى بلدان الجوار فقد بدأت موجات الكراهية تتصاعد ضدهم ويضغط عليهم لكي يعودوا إلى بلد لم يعد بلدهم، ولا يريدهم فيه نظام البراميل والكيماوي. أما الدول الأوروبية فهي اكتفت بمن وصل إليها قبل سنوات، ولم تعد تستقبل المزيد منهم. بل لدى كثير منها خطط لإعادتهم من حيث جاءوا. حتى أن منقذي المهاجرين من الغرق في البحر المتوسط باتوا يحاكمون أمام محاكم بلادهم.
لقد سئم الجميع من السوريين! لكنهم لا يظهرون البرم ذاته من النظام الذي دفعهم للهرب، بل يبحثون عن سبل لـ» إعادة تأهيل» الوحش الذي لا يمكن تأهيله. فالسأم من الضحية أقل كلفة، على ما يبدو، من السأم من الوحش. هل هو تعبير عن عنصرية فحواها أن السوريين كائنات دنيا لا تستحق الحياة كبقية البشر، وأن حكم هذا الوحش لهم هو «من طبيعة الأمور»؟ ربما لا أحد يعبر، صراحةً، عن هذه الفكرة. لكن مسالك الدول والمجتمعات تجاه المشكلة السورية لا يمكن تفسيرها إلا بهذا الشكل: نعم، نحن نعرف أن نظام بشار الكيماوي هو وحش غير قابل للتحوّل. ولكن كفاكم شكوى منه، أنتم لا تستحقون أفضل منه. فغادروا بلادنا واتركونا بسلام، ثم تدبروا أموركم مع وحشكم كما تشاؤون. والأفضل أن تخضعوا له وتقبلوا به كي لا يدفعكم للهرب نحو بلادنا الوادعة مرة أخرى. حتى حين انتفضتم ضد ظلمه كانت ثورتكم «ثورة فلاحين وأطباء أسنان». فلا تتوقعوا منا أن نساعدكم في شيء، ولا أن نستقبل ملايينكم الهاربة من الجحيم. إنه جحيمكم أنتم، فابقوا فيه!
ليس اللاجئون السوريون وحدهم يتامى هذا العصر الذين ضاقت بهم مجتمعات وحكومات دول اللجوء، بل مثلهم سوريو الداخل الخاضعين لشتى الاحتلالات التي لا يعنيها السكان في شيء، وأولهم الاحتلال الأسدي الذي ينظر إلى من تبقى من السوريين تحت سيطرته بوصفهم مجرد خزان للتجنيد ومشاريع للموت على جبهات القتال، ويتعامل مع أي احتجاج على سوء الخدمات الأساسية بقسوة بالغة تحت وصف الخيانة الوطنية. ويمكن قول الشيء نفسه بالنسبة لسلطات الأمر الواقع الأخرى كقسد في شرقي الفرات، والفصائل الجهادية في إدلب وجوارها، وفصائل الارتزاق والتعفيش في الجيوب التركية.
انتهت الثورة اليتيمة بفضل أبوة فرضت عليها من قوى متعددة، ولكن هل يمكن القضاء على الشعب السوري اليتيم أو فرض أبوات متعددة عليه؟
المصدر: القدس العربي