منير الربيع
في الحربين العالميتين، زهقت أرواح ملايين البشر، خصوصاً بين فرنسا وألمانيا. وتجاوزت الدولتان تلك الحقبة الدموية والعدائية ووصلتا إلى التحالف والاتحاد. وهذه عبرة عن تجاوز الدول لحالات الحروب والصراعات والمجازر، على طريق بناء علاقات سياسية، اقتصادية، اجتماعية. وفي التاريخ نماذج كثيرة عن هكذا حالات بين الدول. إنما استحضار فرنسا وألمانيا هنا، يأتي لمناسبة الخلاف الذي طبع العلاقة اللبنانية التركية مؤخراً، إثر خطاب رئيس الجمهورية ميشال عون عشية مئوية لبنان الكبير، تضمن عبارات من قبيل “إرهاب الدولة” في وصفه للعثمانيين وأعمالهم في لبنان في فترة الحرب العالمية الأولى.
في التاريخ
كانت ألمانيا حليفة السلطنة العثمانية، بمواجهة الحلفاء فرنسا وبريطانيا. تجاوز الأعداء خلافاتهم وبنوا علاقات اتحادية، أو استراتيجية. بينما لبنان لا يزال قابعاً في تاريخ متحجر لم يخرج منه. وأكثر من ذلك، فإن الخطأ اللبناني الذي ارتكب، يتفرّع إلى جملة أخطاء. أولاً لم يكن لبنان دولة قائمة في تلك الفترة، ليصف رئيس الجمهورية في خطابه بأنه كان قابعاً تحت الاحتلال العثماني. وهذا لا علاقة له بالانتماء أو عدم الانتماء، إنما نقاش في علم السياسة وبناء الدولة. فكيف يكون هناك احتلال لدولة غير قائمة؟ وحتّى بعد انتهاء الحرب العالمية وهزيمة السلطنة العثمانية، كانت الجماعات اللبنانية مختلفة فيما بينها، على ما يريدونه لهذا البلد، الانضمام إلى فرنسا، أم إلى سوريا، أم الاستقلال.
ثانياً، اتهم عون العثمانيين بارتكاب المجازر في جبل لبنان ومحاصرته ما تسبب بالمجاعة، وهذا أيضاً خروج على منطق التاريخ، فأسباب المجاعة، كانت نتيجة حصار الحلفاء لكل الشواطئ والموانئ اللبنانية والسورية، في إطار استراتيجية الحرب، والمجاعة كانت على جبل لبنان وسواحله المعتبرة جزءاً من الولايات العثمانية، كما أصابت ما غدا لاحقاً جزءاً من أراضي الجمهورية التركية. بمعنى أن ليس الأتراك هم الذين تسببوا بذلك، إذا ما ذهبنا إلى قراءة واقعية وهادئة للتاريخ، بعيداً عن ما تمّ فرضه في الكتب التربوية. أما تحميل المسؤولية إلى العثمانيين، ففي تلك الفترة لم يكن للسلطنة العثمانية أي قوة أو فعالية، كانت قد خارت قواها مع إسقاط السلطان عبد الحميد الثاني في العام 1909، ليتسلّم الدفة فيها القوميون الأتراك الذين اتبعوا سياسة التتريك، وليس العثمنة، بل هم انقلاب على العثمانية وما تمثّلها، لكنّهم استخدموا الدين لباساً لتحشيد “المسلمين” في معركتهم ضد الحلفاء.
ثالثاً، وصف عون الارتكابات العثمانية بإرهاب الدولة، مع العلم أن هذا المصطلح لم يكن سارياً في تلك الفترة، ما يعني أن عون استخدم اصطلاحات حديثة لأحداث حصلت قبل مئة سنة، فهل هذا خطأ أم أمر متعمّد؟ الأكيد أن وضع الخطاب في هذا القالب، له هدف سياسي، في مبنى الموقف الذي يصيغه رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحرّ، الذي يعتمد على خلط مفاهيم سياسية من حقبات زمنية متباعدة، شريطة تحقيق المصلحة السياسية المراد تحقيقها.
حلف الأقليات أم استرضاء دول أخرى؟
ليس بسيطاً أن تظهر هذه الهفوات في هذه الفترة، إذ تطرح تساؤلات عديدة حول أسبابها، فهل لها علاقة بموجة تنامي العنصريات القومية والطائفية؟ خصوصاً بعد اجتماع العالم على مصطلح محاربة الإرهاب المتمثل بداعش، الذي يطلق على نفسه “دولة الخلافة الإسلامية” كما كان يطلق على السلطنة العثمانية، ما يخدم وجهة نظر يؤمن بها عون وفريقه، على أبواب انعقاد مؤتمر للتحالف المشرقي الشهر المقبل في لبنان. هذا التحالف يُراد له ان يكون تمهيداً لمنطق تحالف الأقليات من جهة، وصرحاً سياسياً غير لبناني يفتتح به معركة جبران باسيل الرئاسية على صعيد العلاقات مع الدول والجماعات الضاغطة.
من بين الأسباب التي قد تقف خلف خروج رئيس الجمهورية بهذا الخطاب، وفق اعتقاد البعض، هو الطمع بالحصول على دعم عربي وخليجي ومصري خصوصاً، في ظل الموقف المعروف للإمارات والسعودية ومصر من تركيا وضد الإسلام السياسي. وقد يكون منطق الخطاب تزامن مع حديث عن استعداد إماراتي لدعم لبنان وإرسال وديعة مالية له، كما أن فتح هذا السجال مع الأتراك، يهدف إلى حشد الدعم للعهد من دول الخليج، التي قد تتجاوز كل الحسابات الأخرى، لصالح دعم موقف عون وباسيل هذا.
بكل الأحوال، كادت العلاقات اللبنانية التركية المتينة أن تتأثر سلباً، خصوصاً بعد صدور بيان الخارجية التركية، الذي استفز الدولة اللبنانية واللبنانيين، فجرى استدعاء السفير التركي في بيروت.
منطق المصالح
لكن مصادر متابعة تؤكد أن الاجتماع في وزارة الخارجية اللبنانية كان إيجابياً. إذ أن الطرفين حرصا على تبديد الخلاف وإيجاد المخرج الملائم له. وتكشف المعلومات، أن اللبنانيين طالبوا الأتراك بحذف كلمة واحدة من البيان، وهي كلمة “هذيان”، بينما الأتراك أكدوا حرصهم على عدم التعرض لرئيس الجمهورية، وأن خطأ وقع بالترجمة. وكلمة “هذيان” الواردة في النص التركي مختلفة عن معناها العربي، فالأتراك ينطقون بهذه المفردة بمعنى مختلف. كان هذا المسعى الملائم للملمة القضية. إلا أن ما حدث عند مدخل السفارة التركية، أعاد توتير الأجواء. وهنا استدعى الاتراك السفير اللبناني في أنقرة احتجاجاً. وتكشف المصادر أن البحث يستمر عن إيجاد مخرج، يتركز على تصحيح الأتراك لنص بيان وزارة الخارجية، مقابل اتخاذ الإجراءات المناسبة بحق الأشخاص الذين أساؤوا للعلم التركي واعتدوا على السفارة. فالطرفين لا يريدان تصعيد الموقف، خصوصاً وأن حجم العلاقات الاقتصادية والسياحية والتبادل التجاري كبير جداً.
المصدر: المدن