عبد الباسط سيدا
تعد التجربة اللبنانية خلال الحرب الأهلية (1975-1991) الخاصة بدور المليشيات المسلحة في السيطرة على مناطق النفوذ، وممارسة السلطة فيها بكل جوانبها، الإدارية والأمنية والاقتصادية، وحتى في ما يتصل منها بالشؤون التعليمية والنشاطات الثقافية والفنية، تجربة خاصة، سابقة على التجربة السورية الراهنة.
وما اتسمت به تلك التجربة قياساً إلى ما يقابلها سورياً أنها كانت تعبر عن هواجس ومواقف القوى اللبنانية المتنافسة داخلياً، والمختلفة حول الوجود العسكري والنفوذ السياسي اللذين كانت تحظى بهما منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات في لبنان. هذا الوجود الذي كان قد تكرّس وتعزّز بعد حرب أيلول/ سبتمبر 1970 بين السلطات الأردنية والمنظمة، واستمر حتى 17 تموز/ يوليو 1971. وبعد الاتفاق الذي تم بين الدول العربية، وبتدخل مباشر من الرئيس المصري جمال عبد الناصر في ذلك الحين، كانت عملية نقل مقرّات منظمة التحرير إلى لبنان، حلا مؤقتا لموضوع كان يُنذر بتفجير الخلافات بين الدول العربية نفسها؛ وبين الشعوب العربية المتعاطفة مع قضية الشعب الفلسطيني من جهة وأنظمتها من جهة أخرى؛ وكانت الأخيرة تتهمها الشعوب بالتواطؤ والتبعية.
ولبنان، كما نعلم، كان يعاني دائما من حساسية وضعيته الداخلية، وقابليتها للانفجار في أية لحظة، بفعل تدخل القوى الإقليمية والدولية، وهي القوى التي استخدمته عبر العقود ساحة لتصفية الحسابات وإرسال الرسائل، بفعل عوامل عدة، منها طبيعة التنوع المجتمعي اللبناني، والموقع الجغرافي، فضلاً عن الدور الحيوي في ميادين الصحافة والنشر والتجارة والنظام المصرفي .. إلخ.
الأهم من هذا كله وذاك، كان خشية الدول المعنية من تحوّل لبنان إلى عامل إلهام لشعوب المنطقة المتعطشة إلى الحرية، ولو في حدودها الدنيا، فالديمقراطية التوافقية التي كان قد اعتمدها لإدارة التنوع اللبناني، وتنظيم الأمور، كانت تترك لمختلف القوى مساحة من الحرية والتحرّك والتعبير عن الرأي الآخر المختلف، الأمر الذي كان يتعارض بالمطلق مع طبيعة الأنظمة الشمولية العسكرية العربية، خصوصا في سورية والعراق ومصر. وهذا ما يفسر التدخلات المستمرة من الأجهزة الأمنية الخاصة بتلك الدول وغيرها، في الشؤون اللبنانية، ومحاولة ترتيب الأوضاع في الداخل اللبناني لصالح توجهات هذه الدول أو تلك.
ومع انتقال منظمة التحرير إلى لبنان، برز عامل آخر مؤثر في الدولة اللبنانية، هو العامل الإسرائيلي، فقد بدأت إسرائيل بمتابعة الأوضاع اللبنانية بمزيدٍ من الاهتمام والمعاينة الدقيقة، تحسباً من خروج الأمور عن السيطرة، وفق حساباتها الأمنية الخاصة بها.
أما في الداخل اللبناني، فقد تباينت المواقف بين قوىً رحبت بانتقال الثقل الفلسطيني السياسي والعسكري إلى لبنان (خصوصا بين المسلمين)، بل استقوت به في مواجهة خصومها السياسيين؛ فيما كانت قوى لبنانية أخرى، خصوصا المسيحية منها، ترى في وجود منظمة التحرير بثقلها على الأرض اللبنانية إخلالاً بمعادلات التوازن الداخلية، الأمر الذي أدى بداية إلى الامتعاض، ثم الانتقاد والخلاف، إلى أن تفجّر صداماً دمويا مفتوحا في ربيع 1975. وهكذا تشكلت المليشيات الحزبية بدعم معلن، وغير معلن، من دول عربية وأجنبية. ومع تصاعد نفوذها، فقدت الحكومة اللبنانية دورها السياسي السيادي، وباتت مجرد جهاز إداري. ويبدو أن التفاهمات الإقليمية والدولية قد توافقت بصورة عامة حول الإبقاء على الدولة اللبنانية موحدة، وعدم بعثرتها بين كانتوناتٍ، أو مقاطعاتٍ شبه مستقلة. واللافت في تلك الوضعية أن المليشيات المعنية كانت لبنانية بقيادة لبنانية، تعمل من أجل الوصول إلى أهداف محددة خاصة بهذه القوى اللبنانية أو تلك، بغض النظر عن مواقفنا من تلك المليشيات، ومن ظاهرة المليشيات بصورة عامة.
الأمر مختلف في الوضعية السورية التي تحدّدت ملامحها تدريجياً مع انطلاقة الثورة السورية في ربيع عام 2011، مقارنة بما كان عليه الحال في لبنان. من جهة أن المليشيات على الأرض السورية وافدة، مقحمة في الساحة السورية؛ وإن تمكّنت من تجنيد مواطنين سوريين في صفوفها، وذلك بناء على الدوافع الأيديولوجية، أو المذهبية، أو القومية، أو الأسباب المادية.
ومن أهم المليشيات التي دخلت الساحة السورية، منذ بدايات الثورة، مليشيات حزب الله، ومليشيات عراقية وأفغانية وغيرها من التي أدخلها النظام الإيراني، ومليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي (ب. ي. د.) التابعة لحزب العمال الكردستاني، وكل هذه المليشيات دخلت بالتنسيق والتفاهم مع النظام. كما تمكّنت مليشيات أخرى، منها جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وجيش الإسلام وأحرار الشام، وجماعات إسلاموية أخرى كثيرة بدعم وتمويل من دول إقليمية في سياق صراعاتها على سورية، وضمن المنطقة. ولم يكن النظام هنا أيضاً بعيداً عن الإسهام في كثير من هذه المليشيات، بل كان ذلك يندرج أصلاً ضمن الاستراتيجية التي تبنّاها لإلصاق تهمة الإرهاب بالثورة، وإعطاء انطباع زائف، فحواه أن ما يجري في سورية إنما هو صراع بين منظمات إسلامية متشدّدة متطرّفة ونظام عصري علماني يمثل ضمانة الأمن والاستقرار في المجتمع السوري.
منذ بداية الثورة، خطط النظام بالتنسيق مع راعيه الإيراني لإدخال المليشيات، وتشكيلها، لمواجهة الثورة والسيطرة على مختلف المناطق السورية، أو على الأقل عدم السماح بخروج اوضاعها عن السيطرة، فاتبع فكرة الاعتماد على المليشيات الأجنبية، وما دفعه نحو هذا الخيار تمثّل في عوامل عدة، منها:
أولا، صعوبة سيطرة الجيش والأجهزة الأمنية على الأوضاع، مع انتشار المظاهرات والتحرّكات الشعبية المؤيدة للثورة التي شملت القسم الأعظم من المساحة السورية؛ خصوصا بعد تصاعد وتيرة الانشقاقات التي كانت تترافق مع تحريك القطعات العسكرية، فقد كانت هناك خشية من حدوث انشقاقات جماعية من العناصر وصف الضباط والضباط. وكانت هناك خشية حقيقية من خروج الأوضاع ضمن الجيش عن السيطرة.
ثانيا، مشاركة الجيش بنفسه في عمليات قتل السوريين، وتدمير مدنهم وبلداتهم وقراهم، وإجبار الناس على تراك مدنهم وقراهم، كان من شأنه، في بدايات الثورة، تأليب الرأي العام الدولي على النظام. ولهذا كان التفكير في الاعتماد على المليشيات، وتكليفها بأمر المجازر والمهام القذرة. وكان أصحاب هذه الخطة يرون أن الأمور ستدخل مرحلة الفوضى؛ ولن تبدو الصورة واضحةً أمام الراي العام المحلي والعربي والدولي لما يجري، بل ستكون هناك فوضى عامة منظمة يتحكّم بها النظام، وسيعمل على تسويقها أنها صراع بين القوى الظلامية التكفيرية والنظام العلماني، ضامن حرية الأقليات، وركن استقرار المنطقة.
ثالثا، إمكانية التحكّم بالمليشيات بصورة تامة، عبر التحكّم بالتمويل، والقدرة على التأثير الأيديولوجي فيها، وتكليفها بمهام مختلفة وفق المناطق التي كلفت بالعمل فيها. وعلى الرغم من اختلاف شعارات تلك المليشيات ومشاريعها الفرعية، كانت هناك حالة من التكامل بينها على المستوى السوري العام، وتمثلت بمنع الثورة من التصاعد، ومواجهة القوى المؤيدة لها، وإعطاء انطباع خادع مفادُه بأن النظام هو أفضل الموجود، وهو يمتلك إمكانية البقاء والاستمرار.
وهكذا بدأت المليشيات الأجنبية تدخل سورية تباعاً، لتعمل لصالح النظام، وتحت إمرته وبتوجيهاته، وبالتنسيق مع قواته وأجهزته الأمنية. وتم توزيع المهام والمناطق بين تلك المليشيات، فقد كانت المناطق الكردية، على سبيل المثال، من نصيب مليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي، في حين أن مليشيات حزب الله كلفت بمناطق ريف دمشق وجبال قلمون ومنطقة الحدود اللبنانية السورية، إلى جانب مهام قتالية في الشمال والشرق. أما المليشيات المحلية التي شكلها النظام، فكُلفت بمهمة المحافظة على الأوضاع في المنطقة الساحلية، والمشاركة وفق الحاجة في المناطق الأخرى. أما المناطق العربية السنية، فقد كان العمل على تهيئة الظروف فيها لانتشار تنظيم داعش الذي تحول تدريجياً إلى كوكتيل مخابراتي، ساهمت فيه الأجهزة المختلفة.
ولمواجهة هذا الواقع، أُجبر السوريون على اللجوء إلى السلاح دفاعاً عن النفس. وهنا تدخلت القوى الإقليمية التي كانت تقدّم نفسها داعمة للثورة، وبدأت عمليات التسليح العشوائية، والتمويل الاعتباطي لفصائل تشكلت من دون أي قرار أو تأثير من الهيئات السياسية السورية، خصوصا المجلس الوطني السوري الذي كان قد حصل على تأييد السوريين الثائرين، كما حصل على الاعترافات مما يزيد على المائة دولة. ونظراً لالتزامها بأوامر الداعم والممول أولاً، ظلت تلك الفصائل خارج دائرة الإرادة السورية، بل كانت جزءاً من الصراع بين الدول المتورطة في الملف السوري. وما حصل لاحقاً من اتفاقيات، خصوصا التي كانت بناء على توافقات مسار أستانة، يؤكد أن المليشيات المعنية لم تكن بضاعة سورية من الأساس، على الرغم من أنها اعتمدت على الطاقات البشرية السورية، ولكنها كانت، في نهاية المطاف، من أدوات إفشال الثورة السورية، ووسيلةً لحرفها عن خطها المدني الديمقراطي التنويري، وهو الخط الذي كان يهدف إلى ضمان الحرية والكرامة والعدالة لكل السوريين، ومن دون أي استثناء.
المصدر: العربي الجديد